تيسير نظمي في عواء داكن اللّون في عدد 391 من أفكار

 


إليكم أحبتي آخر قصة تنشر لي بعنوان (عواء داكن اللون) في مجلة أفكار الأردنية عدد 391 صفحة 120 . متنمنيا لكم طول العمر وحياة بهيجة وألوانا ممتعة في حياة زاخرة بالفرح والموسيقى. https://www.culture.gov.jo/ebv4.0/root_storage/ar/eb_list_page/afkar391.pdf

عواء داكن اللون

قصة : تيسير نظمي

 

     ما عدت أتذكر كيف حدث الأمر،ولا متى تحديدا، ولا الأسباب التي جعلتني في السنوات الأخيرة من عمري أجدني وحيدا في عزلة لا هي بالسيئة ولا البهيجة. في غرفة مطلة نافذتها الزجاجية العريضة على طريق يصعد بمشقة مرتفعا لا أعرف إلى أين يفضي. ومع طول الصبر والمعاينة، اكتشفت هكذا بمفردي أن زجاج النافذة من النوع الداكن الذي يجعلني أرى المارة من وراء مكتبي بينما هم لا يرونني. وأكاد أسمعهم لو تكلموا ، بينما هم لن يسمعونني ولا يسمعون بالطبع الموسيقى المنبعثة من الحاسوب أو من وجع الكتابة أو حتى من ذكريات كبار الملحنين والعازفين. ما عدت أتذكر كيف ومتى وقع الأمر. فالنافذة العريضة أمامي أيضا لا تفتح. مصممة بحيث لا تفتح إلا بالريموت كونترول ، ربما ، ولا وجود لهذا الريموت كونترول في زنزانتي المريحة بعض الشيء ، رغم وجود ريموت شاشة التلفزة المفتوحة على قناة واحدة لا تقبل التبديل أو الإستدارة. لا ، ما عدت أذكر شيئا عن البدايات. عن النهايات، عن الذكريات القريبة أو البعيدة. لكن كل هذا بدا محتملا وأنا لا أغادر مكاني هذا منذ فترة طويلة، ولا أدري كيف يتم تزويد هذا المكان بكل ما أحتاجه و متى ! قلت لنفسي ، لعلهم يرتبون لي كل شيء أثناء النوم.ولم أعد أيضا أتذكر متى نمت آخر مرة و متى استيقظت. ساعة يدي واقفة. والحاسوب به ساعات كثيرة ، ولكي أعرف الوقت يتوجب عليّ أن أحدد مكاني أين أكون ؟ ربما أنا ما زلت في عمان ، أو أنني انتقلت للعيش ثانية في الكويت! أو أنني غادرت إلى الجزائر. ربما أكون في السويد أو في كاتماندو ، ربما أكون في الصين أو في ألاسكا. فأنا لا أسمع المارة يتحدثون كي أحدد من لغتهم مكاني، ولا أعرف أية لغة يتكلمون كي أعرف زمني من لغتهم. ماذا لو كانوا يتكلمون الآرامية مثلا ! أو الكنعانية القديمة ! أو الإنجليزية قبل الغزو النورماندي ! احتمالات كثيرة لم يطل تدارسي لها قدر شغفي بالسائرين على الدرب الصاعد نحو أعالي أجهلها ولم أرها من قبل.

     ضجرت اليوم من القراءة ومن الكتابة ومن الموسيقى ومن أفلام السينما ومن كل شيْ عندما تابعت مشهد رجل طاعن بالسن يصعد مصطحبا كلبه أو كلبته الطريق و يختفيان. من حركة الكلب أدركت أنه غير راض عن ارتياد صاحبه العجوز لذلك الطريق. كان يتوقف كثيرا و صاحبه العجوز يتفهم توقفه فيتوقف قليلا مداراة منه له. لكن الكلب يشده بعكس الإتجاه السائر فيه. يشده للخلف والعجوز في نهاية الأمر يشده إلى أمام إلى أمام ما بين كل خطوة وأختها. عجبت لأمر هذا العجوز مثلما عجبت من أمر الكلب. فكل ما أعرفه أن الإنسان هو الذي يقود الكلب ، لا أن يحاول كلب شاب اقتياد صاحبه المسن بطيء السير متثاقل الخطوات إلى أعلى.

     فجأة ، انبثقت من الذاكرة مشاهد متعددة للمارة الكثر الذين شاهدتهم من وراء نافذتي الداكنة؛ يسيرون في اتجاه واحد هو الصعود. بدأت أتذكر رويدا رويدا أن من شاهدتهم يمرون من اليسار إلى اليمين صاعدين بتثاقل المرتفع الغامض لا يعودون من نفس الطريق مهرولين أو متئدين من اليمين إلى اليسار ماشين أو راكضين يغريهم المنحدر بالخفة والحبور. لا لم أشاهد حتى الشباب منهم والصبايا يعودون من نفس الطريق. استوقفتني الملاحظة تماما قبل أن يختفي الرجل العجوز وكلبه أو كلبته تماما عن ناظري. ومما أيقظ انتباهي أنني شاهدت عاشقين يسيران في نفس الطريق صاعدين فيختفيا تماما عن ناظري ولا يعودان إلى نقطة البدء التي انطلقا منها. شاهدت أيضا أناسا فرادى يسيرون بتثاقل صاعدين الغامض الرمادي إلى لجة الكحلي و تختفي ألوانهم معهم قمصانا أو فساتين أو بنطلونات جينز ممزقة عند الفخدين أو الركبتين. في البداية ظننت أن الأمر متعلق بالرياضة البدنية التي تتطلبها الوقاية من فايروس كورونا. لكنني لم أرجح هذا الظن لأن من يغادر لا يعود. ومن يمارس الرياضة البدنية صعودا كيف لا يمارسها هبوطا من الأعالي والمرتفعات. أقول لكم : اجتاحتني حمى المعرفة لما وراء نافذتي وما وراء المرتفع الذي أنا ساكنه الفرد الوحيد الأعزل. ساعدتني الشمس في تحديد المشرق وتحديد مغربها. ولم أكترث كوني لم أستطع تمييز الشمال من الجنوب أو العكس إن شئتم. و فكرت قليلا بأن السائرين على الدرب يغادرون مثل الشمس من المشرق إلى المغرب. و ليس العكس بالطبع. لكن الشمس بعد المغيب تعود في اليوم التالي من حيث أتت وهكذا دواليك، بينما الذين شاهدتهم لم يعد أحد منهم من حيث أتى. إلى أين يذهبون ؟

     عشرات السائرين أمامي طيلة النهار وطيلة الليل يسيرون على أقدامهم فرادى أو جموعا مصطحبين زوجاتهم أو كلابهم أو كتبهم أو عكازاتهم ؛ إلى أين يذهبون؟ لماذا لم يفكر أحد منهم بأن يتوقف قليلا وينظر نحو نافذتي العريضة الداكنة الزجاج غير المشرعة ويصرخون أو ينادون أو يستفسرون عن الطريق أو يستدلون بي و مني على عنوان مجهول؟ ولو خطر لي أن أسأل أحدا منهم " إلى أين أنتم ذاهبون؟" فهل سوف يسمعني ؟ بل هل من حقي السؤال وأنا مثلهم يحق لهم أن يسألونني: "ماذا أنت بفاعل هنا؟ " أو "ماذا تنتظر؟" فبماذا أجيبهم على أسئلتهم غير المتوقعة التي أنا عاجز تماما عن الإجابة عليها ؟

     عدت يائسا من المشاهد المتكررة أمامي و يائسا من الصمت الداكن الثقيل فأشغلت مسجلتي على موسيقى "الدانوب الأزرق" وشرعت أراقب المشهد من خلال نافذتي الوحيدة الباقية. شاهدت مجددا زوجان يقتتلان أمامي في طريق الصعود المعتاد. لوحت بيدي لهما أن كفى ! فلم يراني أي منهما وظلا يقتتلان. ناديت إذ ناديت فلم أسمع أنا صوتي الذي ظننته عاليا صاخبا كالموسيقى ، فخفضت من علو صوت الموسيقى وبالتزامن خفضت من سرعة جريان نهر الدانوب، لكنني عبثا أحاول إسماعهم صوتا ليس لي، فلذت بالصمت قبل أن يختفيا من المشهد.

     الجدران من حولي تقترب مني ببطء و تضيق المساحة رويدا رويدا، وكلب العجوز أيضا يعود هلعا مذعورا مثل كلب مجنون، يعوي حتما ويجري و عند باب داري يقعي وحيدا،فيزداد اللون الرمادي حلكة. اقتربت من النافذة فشاهدت الدموع في عينيه بعد أن كف عن العواء تماما و انبعثت ثانية من ورائي موسيقى الدانوب.

12-8-2021

    

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نص قصيدة عماد الدين نسيمي كاملا حسب أغنية سامي يوسف

من اهم الكتب الممنوعه في الاردن: جذور الوصاية الأردنية وجميع كتب وترجمات تيسير نظمي

بيان ملتقى الهيئات الثقافية الأردنية وشخصيات وطنية حول الأونروا