هيئة تحرير مجلة أفكار توقف نشر قصة (رجل الثلج) مراعاة لاتفاقية وادي عربة
هيئة تحرير مجلة أفكار توقف نشر قصة (رجل الثلج) مراعاة لاتفاقية وادي عربة و الانتخابات الاسرائيلية بقرار من وزيرة الثقافة في الأردن وكانت مجلة أفكار الشهرية التي تصدر عن وزارة الثقافة الأردنية قد نشرت في العدد 308 الجزء الأول من القصة و في العدد 311 الجزء الثاني وتبقى جزئين غير منشورين من القصة والتي يتطرق بها الراوي للفترة التي توفي بها جورج حبش ولكتاب إسرائيل شاحاك (وطأة 3000 عام من اليهودية) و من المفترض أن تتحرك رابطة الكتاب والمثقف الأردني ومجلس النواب لمساءلة وزيرة الثقافة عن هذا الخنق العلني لصوت كاتب حر من الصعب إيقاف راجماته و عن جدوى المنع لأن الشمس لا تغطيها غرابيل عبدالله المثقوبة
للحصول على نسختك الإلكترونية من الكتاب القصصي الممنوع تداوله في الأردن وأقطار عربية أخرى اضغط على هذا الرابط ل مجموعة رجل الثلج
الأجزاء التي أوقفت الأردن نشرها من القصة :
القبلة الأخيرة و غفوة التنين*
تيسير نظمي
القبلة الأخيرة
ما أن شرعت
بقراءة الفصل الأول من كتاب شاحاك حتى تذكرت القراءة الأولى له ولم أعد أجد في
المتابعة متعة وكشوفات القراءة البكر التي ظننت أن ثلج النسيان قد دثرها تماماً ،
لذلك قررت أن أذهب لفراشي عن طيب خاطر فوضعت فوق جسدي كل ما لدي من أغطية وتركت
رأسي مكشوفاً مخافة الاختناق لا من صوبة جازولين لم أعد أمتلكها ولا من أية وسيلة
للتدفئة بل من جو الغرفة التي أظن أنني أستهلكت كل ما به من أوكسجين. كنت على وشك
المغادرة أنا أيضاً عندما لامس خيط رفيع قصبة أنفي فطردته. وبعد دقائق عاود الكرة
دون أي مسبب من البطانية التي لم أحركها فأدركت من تكرار هذه الملابسات أن ثمة
مخلوق آخر يشاركني البقاء وهو العنكبوت الذي يعمل منذ شهور بدأب على بناء بيته.
وعلى الفور عكست وضع رأسي إلى الجهة المقابلة وتحديداً باتجاه القبلة التي أرشد
بعض من يطلبون الصلاة لدى زيارتهم لي، لها. فأرحت نفسي وتركت المجال رحباً لها تلك
العنكبوت كي تؤثث بيتها كما تشاء دون أي تخريب مني ما كنت في السابق أقصده لو
توصلت لمعرفة أن الخيط خيطها وليس من
اللحاف فوقي. وظل الجو صقيعاً حتى تحت الغطاء الملفع هو الآخر بأغطية
الشتاء والصيف. ما من سبيل للنوم، هذا ما أدركته، فكيف لمثلي أن ينام مرهق الضمير
بما سبق وأن خر به من دأب تلك العنكبوت؟ فجأة تذكرت الشجرة في باحة رقعة الحديقة
التي يطل عليها الباب الخلفي للمنزل من جهة المطبخ. ماذا حل بها يا ترى وهل ستنام
الليلة مغطاة بالثلوج هي أيضاً؟ نهضت فوراً وفتحت النافذة المطلة عليها لأجدها
تبكي بصمت. يا الله ما أصبر الشجر وما أعظمه. لم أشاهد في حياتي شجرة تبكي إلا
الآن. ومن الثلج المتراكم فوق فروعها وأغصانها تنحدر الدموع القليلة. كفكفت ذلك
بحنو يدي مزيحاً الكتل البيضاء عنها. بل وداعبتها قليلاً كي أبعث فيها الأمل
مجداداً بأن حلة النوار قادمة إليكِ في الربيع المقبل فعلام البكاء! ولحظتذاك كنت
قد نسيتُ بفعل التعود أن الشمس انتهت وأن الشتاء النووي دائم وأن من أكلوا ثمارها
واعتنوا بها قد غادروا هم أيضاً لا أعلم إلى أين. وفعلاً تحسنت حالتها النفسية
وأخلدت للصمت بعد زوال معظم الثلوج فوقها. عند ذاك أيضاً، ورغم مرور ثلاثة أيام
على وفاة الدكتور. وعدم تمكني من الذهاب لا للجنازة في كنسية الروم الكاثوليك ولا
لبيت العزاء، عند ذاك قلت لنفسي: ليس بالضرورة أن تموت الأشجار واقفة، بل ليس
بالضرورة أصلاً أن تموت لولا اجتثاث الآخرين لها. أو نظراً لاستخدام الفقراء لها
للتدفئة. فالشجر لا يموت إلا بموت الإنسانية، بل ربما هو الأبقى والأكثر خلوداً.
لم أطل التأمل حالما انتهيت، قبلتها عند الساق كما لا تقبل أنثى آملاً منها أن
تكون أحست بي مثلما أحس بمعاناتها وآملاً أن تفهم أنها الكائن النباتي الأخير
الباقي مؤنساً لعزلتي في هذا الفضاء المليء بالثلج حتى نهايات المجرة وآملاً من
لقاءنا في هذه اللحظات أن يكون كلانا قد قام بالتعزية للآخر بالمرحومة الشمس التي
رغم كل ما بذلته للإنسانية لم يعد يتذكرها أحد الآن إلا بفعل الحاجة. أما السيدة
المحترمة أنثى العنكبوت فلا دخل لها بالعلاقة بيننا، بل هذه سنة الحياة. الحياة
لديها أن تعيش عازبة وقاتلة في نفس الوقت لمن كان ذكرها، الذكر، والعريس ومع ذلك
أريد أن أنام بهدوء، لا أن أنام قاتلاً لو أنني فكرت بهدم بيتها وملاحقتها
و«سحقها». لا أدري بالطبع على أي دين أنام، بقدر ما أنا مؤمن وبيقين من صحة أفكاري
وممارساتي. فها قد وقع ما حذرت منه طوال حياتي، وما أدركته بفضل العلم وليس أي دين
بالضرورة، ومع ذلك وهبني الخالق كل هذا الثلج كي أكونه ويكونني، كي يكون هو نهايتي
ولست أنا الفرد البسيط نهايته، وعلى ذكرى الشجرة أغادر وعلى ذكرى القبلة أنام
قال هاجسي:
كل افتراضاتك
خاطئة، فلماذا لا تفترض العكس، أي أن الكوكب تحول إلى ما يشبه المريخ أو أي كوكب
نأى بنفسه مثلك عن الشمس وعن المرأة وعن الأحزاب وعن الإمبريالية وعن الشيوعية
والأديان؟ فقلت: ربما، فآخر ما أذكره عن صديق متدين لي ذات صلاة جمعة أن قلت له:
(معتذراً عن تحقيق أمنية له طالما راودته بحسن نية تجاهي أن يهديني الله فنذهب
سوياً للصلاة المباركة) «أدْعُ لي في صلاتك!» فقال فوراً: «ربنا يأخذك.» ورغم
التأخير الإلهي في الاستجابة لدعوته، أفكر الآن أيضاً أنه ربما استجاب عز وجل
فأرسل بي إلى هذا الكوكب وحيداً فقال هاجسي مقاطعاً:
ولم ينزل
عليك الثلج في الشوارع مخافة أن يذوب الثلج وتبتل من عاليك لأخمص قدميك بالماء كما
حدث لك في الفيضان الذي غمرك ذات شتاء، فلم تمت بحكمة من لدنه كي تؤوب. في تلك
اللحظات كانت زمجرة الريح قد بدأت تعصف في الخارج، عواصف دون رعد ودون برق ودون
ماء. فقط أعاصير تهب على ما يبدو من كل الجهات بالشجرة في الخارج التي تقاوم الآن
ببسالة منقطعة النظير كي لا تنام غير واقفة أو تحتضر، إن هي لم تقاوم، بمنأى عن
جذورها. يا إلهي، كم سمعتها صغيراً عبارة «يقصف عمرك» وفي البدء كانت بفعل الإعجاب
ثم ما لبث أن تحول ذلك الإعجاب إلى اعتزاز قبل أن تحوله الأمكنة إلى ضغينة فقبل أن
أذهب إلى قطر من أجل فرصة عمل كنت أنا البادئ بقصفها تلك الفرصة. فجأة صوت انهيار
في الخارج، حدقت في النافذة فإذا بالبيت المقابل قد سوي بالأرض من ثقل الثلوج التي
لم يحتملها ومع ذلك لم أسمع صراخاً ولا استغاثات نجاة ولا هرولة ولا شاهدت أحداً
يخرج منه أو يهرع إليه. فالقوات المسلحة بقضها وقضيضها تنزل إلى الشوارع والساحات
لمقاتلة الثلج ومهمات الإنقاذ لا تتحرك من قبل الدفاع المدني إلا بتبليغ هاتفي أو
عبر اللاسلكي أو البث المباشر. وكان البيت قد أتى على سروة جواره فقصف عمرها للتو.
قال هاجسي:
أية
إنسانية تدعيها وها أنت لم تهرع للتبليغ أو المساعدة وأنت ترى بأم عينيك ما يحدث
لجارك المقابل؟
قلت طارداً
توبيخه بتوبيخ مماثل:
وهل رأيت
بشراً يدخلونه ذلك المنزل منذ عشر سنوات؟ فلماذا لا تفترض أنت الآخر أن أصحاب
البيت من أولئك الذين يمتلكون بيوتاً هنا ويقيمون ويعملون في دول الخيلج أو
أمريكا؟ أما السروة فليس ثمة بيني وبينها علاقة منذ حرمت من مشاهدة سرو سيلة الظهر
الباسق العملاق في مرتفعات جبلية في فلسطين قل نظيرها جمالاً وألوهية وقداسة وهذا
المنزل الذي هوى ليس ببساطة مقام النبي لاويين أو النبي سيلان في مهد الطفولة
الثلجية أيام مواقد النار. فكف الهاجس عن محادثتي وطار، كما النوم من عيني
الساهرتين على الشجرة.
غفوة التنين
تمادت
العواصف عندما لم تجد جبلاً يردعها أو يربت على كتفيها قائلاً: شاهدت مثلك كثيراً
من الرعونة الهوجاء فاستريحي قليلاً وانظري لكائن الثلج الغافي هنالك عند عتبات
النبي سيلان. أو على الأقل إهدأي لعلي أفهم مبتغاك من الهبوب. فإن قصدتي تلك
الشجرة في حديقة البيت المستأجر في عمان فهي لك دونما زعيق إذا جد الجد، فالمؤجر
من أصول سورية سيحتمي إن هو شاء بجبل قاسيون لعله يرمم ما انقطع له من جذور في
قدسيا أو ما سلب منه من كبرياء في الجولان أما المستأجر فهو الإبن البكر لي ما
زالت أغنية فيروز «يا جبل اللي بعيد.. خلفك حبابينا» تعصف به منذ أربعين عاماً ولم
تقطع له جذراً واحداً من قرميته العتيدة الممتدة على كتفي القبيبات «أنا» من سرو
وكرز وزيتون وعنب وعرائش الدوالي. حتى مستوطنة «هوميش» أنقذوها منذ سنوات من
القادم والآتي. فلو صدق يهودها في ادعائهم التوراتي أو التلمودي لما شيدوا
مستعمرتهم على كتفي اليسار ما بين برقة والسيلة الرابضة على ظهري وإن شئت في
أحشائي منذ تمجلست بفعل الخالق الأحد فوق هذا اللحد.؟ ولشيدوها هنالك. انظري أيتها
الجوفاء، في السهل المؤدي إلى سواحل حيفا حيث مقام النبي لاويين. فهل جاء مستوطنوا
حوميش للتعبد هنا أم للسياحة؟ لقد شيدوا بيوتهم كما كانت تشيد في أوروبا وأهالوا
طعامهم في وجه جنود شارون الذين جاؤوا قبل ثلاث سنوات لإخلائهم وسكبوا زيت الزيتون
المقدس في الشارع الصاعد إليها تلك «الحوميش» لتنزلق آليات «جيش الدفاع» وتذهب
للجحيم عندما اقتربت من رأسماليتهم المؤدية للإمبريالية الأمريكية. فأهدئي أيتها
العواصف الرعناء. ولعل الهدوء يجلب لك السكينة والعزلة ومن ثم البصيرة. فما الرجل الساهر
قرب تلك الشجرة سوى الابن البار للهدوء والعزلة، ومنها يستمد إسلامه السموح مع أهل
الكتاب. فهو لم يطرد في حياته نملة. ومنها يستمد انجيله الخاص وتوراته الخاصة، إنه
التلمود غير الحاقد، وهو التنين الراقد في سفوح عمان المدينة التي تشبه الثلج في
هشاشته. فكم استغرق معك هدم ذلك البيت الذي شيده أصحابه ليهدوه إلى أمريكا أو
مراتع النفط؟ ليس سوى دقائق معدودة وتقوض. أما ذلك الإنسان الساهر على ضميره وذكرى
الشجرة، فوفيٌ لابن الشجرة* وثمر الشجرة وورق الشجرة. لن تقتلعيها من
ذاكرته ولا من ضميره ولا من شروش يديه الناتئة بانتظار جلطة قادمة. وإذا كنت لا
تريدين الهدوء وتتعجلي البوليس والدائنون وفواتير الكهرباء والماء وتلفيق تهمة
جديدة فلست امرأته أيتها العاصفة الجوفاء كي تمكني منه الأعداء. إهدئي ياما ثار
وماج وهاج غيرك وفي النهاية استكان قرب نفايات الزرقاء موطنه وقرب صحراء الأزرق
نهايته إذا ما كان رجلاً من الرمل أو شجرة من الشوك. لا... لن تقتلعيه إلا من
حدودك الجغرافية، وحدوده توراتية، والأسرار باتت مكشوفة أمام هذا التنين المتقدم
نحو أفق الثلج والحرية. أهدئي، بل انخمدي أيتها المدعية الرعناء فقواتك المسلحة لن
تقضي على الثلج بهراواتها ولن تسقط الكوكب برصاصة ولن تعتقل الأفق الجديد بأقفال
تم صنعها في اليونايتد كنجدم. فلعلك تتأملين ما يتأمل وتتخيلين السنوات المقبلة
كما لا تتخيلها إدارة بوش وحكومات أبي لهط العاجزات عن تسديد المديونية لكن الجبل البعيد ظل يخفي سراً بأن
الشمس لم تنته تماماً. وأن رجل الثلج كان يعتقد يائساً أن النهاية حلت، ويعتقد
واثقاً أن الله عز وجل يحبه على ما هو عليه أياً كانت ظنون ومعتقدات الفانين من
البشر. ولم يبح الجبل لحظتذاك للعاصفة بكل ما لديه فقد كان يعلم أنها عندما تشرق
الشمس من جديد، ويذوب رجل الثلج الغافي عند عتبات مقام النبي سيلان، ويذوب الرجل
الساهر في مرقده يتلظى في عذاباته أو تأملاته، سوف تدلف العاصفة إلى أقرب مركز
للشرطة للإدلاء بإفادتها. ظلت العاصفة منصته. فغفت الشجرة قليلاً، وظلت العاصفة
تستمع لجبل يعقلنها ويشد من أزرها ويبصرها كي يلهو في النهاية بها عن الحسد كي
ينأى بها عن الجسد، وكي يسوي لها روحاً لرجل الثلج كي يجدها له، وبه، عندما يذوب
ويستيحل إلى ماء يذوب مجدداً في السيول، السيول التي تتجمع وتتكاتف ومن جبل
القبيبات تهدر في الوادي، الوادي الذي يحاول منذ الأزل أن يصل مشارف شطآن الساحل،
إلى حضن أبيه، البحر، إلى حضن أمه، الأرض.
·
الجزء الثالث من قصة رجل الثلج
النبض والمدى*
تيسير
نظمي
أضاءت
ملامحه ابتسامة عندما تذكر قصة نورما اللبنانية ورجل الثلج الفلسطيني، لكنها اختفت
عندما تذكر المؤلف. كان في قصة يحيى يخلف
رجل الثلج هو الذي يذهب لزيارة نورما بائعة العصير النحيلة ثم يعود أدراجه
للمرابطة في الجبال أما الآن فإن رجل الثلج أصبح في كل مكان ونورما أصبحت لبنان بل
وأصبحت عمان إذا ما قيس الأمر بمشهد
الثلوج والثياب البيض. الفرق فقط في درجة الجمال عندما تنزع كل عروس ما عليها من
طلاء وألوان. ضحك لنفسه عند هذا التوارد. فعندما يذوب الثلج في عمان... غيره عندما
يذوب الثلج في لبنان. لكم أحب لبنان التي يراها. فكل من صعد قمة جبل القبيبات قال
مشيراً للشمال: تلك هي لبنان، عندما يشاهد قمة جبل الشيخ مغطاة بالثلوج لفترات
طويلة من السنة قبل أن يلحظ الزرقة الداكنة عند سواحل حيفا أو يقول تلك هي حيفا أو
تلك هي يافا. ربما لأن الزرقة كانت وفيرة في السماء كنا نحتاج فقط للأبيض الناصع
الثلجي الذي بالكاد كنا نراه في خرق العجائز المسنات لكثرة ما كن ميالات لصبغ
الأبيض الناصع بالنيلة الزرقاء أو السماوية لكسر حدة الأبيض في سطوع الشمس في
الصيف، تلك التي لا تحتملها عيونهن بعد سن السبعين والثمانين أو التسعين. فأين
منهن نورما اليوم التي لا تكبر ولا تشيخ. وأين منهن اليوم رجل الثلج القابع مثل
تنين قد تندلع من فيه النار في أية لحظة. ألم يندلع من الجوع أهل غزة إلى سيناء؟
هكذا ستندلع النار إذن من فم التنين نحو قصر العدل أو غيره من القصور في أرجاء
المعمورة. ضحك من لفظة «المعمورة» الدارجة الاستعمال رغم أنها غير معمورة صحارى
العرب سوى بالخراب الذي جَمَّلَهُ عز وجل بأثواب من الثلج كملهاة وجيزة وسبات قسري
للناس كي تكظم غيظها على جوع وبرودة. لم يكن في تلك الليلة ـ إذا جاز لنا الوصف ـ
متأكداً من نهاية الكون، بل من اتساعه، ولم يكن متأكداً من حكاية النزوح إلى
المريخ بل من أن المريخ جاء إليه. ولم يكن متأكداً من حكاية نهاية الشمس، بل من أن
الشمس في اليوم التالي ستندلع من عينيه ، فقد هدأت العاصفة وخمد زئيرها، لكنه لم
يهدأ ولم تخمد جذوة الاشتعال فيه، لقد نامت الشجرة وهو لم ينم من حلاوة وعذوبة ولمس
تلك القبلة فقد وجد راحة يده على حرش من
لحيته النابتة بلا هوادة وبلا انتظام، ينام لعله ينام.
النبض والمدى
قال لنفسه:
بعد ست وخمسين عاماً لم أزل في القرآن
الكريم عند أول كلمة من أول آية، إقرأ... ولم أنتقل بعد لأية كلمة تالية لتجعلني
أحس بامتلاء كينونتي. أما في سفر التكوين فقد كنت عند رعشة الماء ما بين الظلمة
والضوء ولم أزل إن لمن أكن تراجعت عن ذلك مع تراكم الثلوج الذي يصعد يصعد ليلامس
بالأبيض الناصع رماد السماء المكفهرة بلا وضوح أو لون محدد. ثمة فرق ولا شك أن صقيع سيلة الظهر في الخمسينيات
كان حافي القدمين، والآن أنجزنا والحمد الله في العقد الأول من القرن الواحد
والعشرين استيراد أحذية من العين أو من البالة في وسط البلد تكفي لكسوة شعب أو نصف
الشعب إذا ما طرحنا من التعداد العام عدد
البساطير. هل مات حقاً إسرائيل شاحاك؟ لن أسأل «الواشنطن بوست» على أية حال أو
ثوماس فريدمان في النيويورك تايمز. فقط أريد أن أطمئن عليه في الثمانين من عمره.
أما قناة الجزيرة التي أذاعت نبأ وفاة الحكيم فليس لها أو لأحد أن يعتب عليَّ بعد
انقضاء خمسة عشر عاماً على وجودي في الأردن عارياً في مواجهة الأعاصير وتنفيذ
استدعاءات الجلب إن لم أذهب لإلقاء النظرة الأخيرة أو للسير والهتاف في المسيرة أو
لحمل باقة ورد له في الكنسية أو لوداع رفقته في سحاب. فلم أتحدث إليه مرة في حياتي
ولم أزر بيته أو يسأل أحد منا عن الآخر منذ البرنامج المرحلي في النصف الأول من
السبعينيات. لكنني أكتفي من سيرة حياتي بأننا التقينا ذات مرة في المصعد. وكان
مرافقه قد احتجزه لصعود الحكيم، فعدلت عن عدم استخدام همتي في صعود الدرج باستخدام
ساقيَّ في الصعود والهبوط وكان لسبب «سري» قد اعتذر مستخدماً كلمة «إبني» في
التعريف بي. لكنني لا أخفي أنني منذ أكثر من أربعة وثلاثين عاماً ما زلت عند نقطة
حرجة ما بين القومي والأممي وما بين الوطني والقومي لم أبرحها إلا نادراً مهما كان
حجم الصعود أو الهبوط ولو بالطائرات. وأنني في الانتظار لما هو آت. وأنني ما عبدت
في حياتي صنماً ولا عبدت اللات. وأن الرفاق على اختلاف نهاياتهم لهم الحق كل الحق
في الإنشاد وفي حمل الرايات. أما أنا فلا راية لي كي ألوح بها ولا غد ولا عقارات
ولا بنايات. لكن الثلج حاصرني فلا رن هاتفي ولا مرت بي كل هذه السيارات. وفي عزلتي
لم أزل متمترساً ليس في غايتي إلا المزيد من الثبات. هل لكم أن تسجعوا عوضاً عني
وعن هذه اللغة؟ بالأمس كان قلبي يخفق ولم أنتبه أنه هو. يا له من قلب قوي على
المشقات والنكبات والنكسات والهزات والرعشات. لكنه أيضاً بات واهناً من حقه ذلك
بعد قطعه كل هذه المسافات. ومن حكمة أمثالي أن لا يذهبوا. بل من واجبهم الإنساني والأخلاقي أن لا يذهبوا. ثمة ما
يسكننا من الماضي غير بيوتنا وقرانا وسهولنا وجبالنا . ثمة شهداؤنا الأجمل من هذا
الثلج . ثمة حسابات وعتب وأخطاء وتحولات في كل ما نحمله من الفكر القومي الذي يؤول
إلى سبات بعد كل تلك الهبات والفورات. ثمة ما يشغل غيرنا من حسابات ومقاولات. أما
نحن ، فليس لدينا سوى مقالة أو مقالات. فهل بوسع أحد أن يسجع مثلي أو يهجع في مهجع
13 في
بيرين لأنه أقدم بكل جرأة على دهس أصبع زوج صاحبة الطليقة؟ كما ورد في لائحة الدعوى
في القضية رقم ...../1994؟ ومع ذلك.. لا جاءت نورما في هذا الليل ولا
نامت غزة. ما ذاب رجل الثلج عند عتبة النبي سيلان ولا زار أهل حوميش لاوينهم. ولا
اتصلت شركات الهواتف النقالة تقول: بمناسبة الظروف الصعبة تهديكم الشركة ديناراً
واحداً وقد يكون فيه نجدتكم كي تبقون على قيد الحياة كزبائن مربحين ودائمين لشركات
الاتصال الخلوي في الأردن السعيد بحلته البيضاء. ولا اتصل الأصدقاء أو رابطة
الكتاب تتقصى حالة أعضائها في هذا الصقيع الذي جمد نحو مئتين من الأعضاء يضاف إلى
من دخلوها أصلاً وهم لا حراك مجمدين.؟ وهذا الثلج الوضاء الطاهر في الخارج مثل
قلبك أبيض. وهذا الثلج المتراكم الهش مثل تراكم العضوية في الاتحادين من الكتاب ما
يلبث أن يتكسر بنفخة تنين ناشيء ستحول إسرائيل بكل قوتها دون أن يبلغ سن البلوغ
وينمو كما تنمو الديون على أمريكا ويهجم بحكمة ليخرجها ملغمطة ببترول ونفط الجزيرة
وملطخة بسواد نفط العراق. هكذا هي تأملاتك في بلاد الواق واق. حيث لا طيور حولك
ولا هديل حمام. حيث لا سكينة حولك والناس نيام. وحيث على غلبهم ينام العباد وعند
الصبح يظهرون لأعمالهم وكأنهم لا ظلم لا جور ولا تناقض في وئام. هو الثلج إذن
عطلهم عن أعمالهم ورحمة للأرض والطير والشجر. هو الثلج المقدس عطلهم عن الكلام.
فالله عز وجل أرسل لهم كل هذا الثلج عبرة وفكرة ورسولاً. فهل تأمل أحدٌ منهم في
هذا اللون ما يقوله الثلج أم ظل كسولاً في الدفء يحتمي وبما يمتلكه من غنائم
النهار والانهيار . في البرد ينفق من الدفء على لصوصه الصغار الوثابون للسرقة
واستبدال الشمس بمائدة للقمار. غداً إذا أشرقت الشمس يستيقظ المتجمد في سيارته على
سيجارته فلا ينتبه أن ثمة بروميثيوس أشعلها له، بل على ما غنمه من ثلاثة أضعاف ثمن
العلبة ويسير إلى حيث مجمع سرقاته ومن حوله من الشطار. أما أنتَ يا سيد الشعلة
والنار، فقد كتب عليك أن تظل تكتب وتكتب في الحصار، تضاريساً لروحك، ومن روحك
تستمد دفئاً أية نار. ومن روحك تستمد
قوتها اللغة وتهدر من شعلة الحرف 700
بئر من الآبار. نفط الأرض يسمسره التجار الفجار وعليك إحكام إغلاقه منزلك عليك،
وعليك إحكام صنع ما هو مقبل والثلوج تعلو والسماء انثيال تلو انثيال. فلتحكم إقفال
غازات روحك وإياك قبل موعده أن تعلنه الإنفجار. فاصمد أيها الثلج المقاوم. واصمد
من وراء حصارك أيها التنين المقاتل.
ضحكت الشجرة لما وصلها من هواجس رجل الثلج
وتحولاته، كي يدفء نفسه، إلى تنين صغير. بالطبع أحسست بالامتنان له من تلك القبلة
واليد الناحلة التي أزاحت عنها الثلوج. لكنها لم تتمالك نفسها من الضحك جذلى من
فكرة اللهب الذي سيخرج من فمه وربما أصابها بمقتل إن هو لم يحكم تصويب النار حيث
جبل النار. لكنها أيضاً لم تخفِ تلك الرعشة التي أصابت جسدها وهي معزولة ووحيدة عن
الغابة وهي أيضاً حبيسة ما ينتظرها من الانتظار. إنه قبلة الحياة وكفى، قالت
لنفسها، وتذكرت ما به من الظمأ. وتذكرت ما تعده
أيضاً في الصيف القادم من كلأ. إنها قبلة الحياة أياً كان شكل الوداع يا
رفيق. ولم يكن على منأى من التواصل معها، فقد خرج لتوه لمشاهدة ما جمعته أغصانها
من الندى، وكانت من نشوة الحب ترى في عينيه ونبضه اتساع المدى.
·
الجزء الرابع والأخير من قصة رجل الثلج
تعليقات