أسعد العزوني يكتب عن آخر قصة لتيسير نظمي: "صديقي"
تيسير نظمي |
المبدع تيسير نظمي يستخدمها
كمنصة
لإطلاق الإسقاطات على
الواقع العربي
الثقافة 29/11/2019
أسعد عزوني٤
صحيح أن المبدع تيسير نظمي تحدث
في قصته بعنوان”صديقي”عن ديك مزعج كان يجاوره في الطابق السفلي من بيته المستأجر
المتواضع في حي جبل اللويبدة الثقافي ،لكن قراءة معمقة للقصة تظهر أنه ورغم وجود
الديك فعلا على أرض الواقع ،فإن نظمي إستخدم القصة منصة لإطلاق الإسقاطات على
الواقع العربي الحزين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
إستهل المبدع نظمي قصته بإستعراض
ما فقده طيلة ال67 عاما الماضية من عمره المديد،بدءا من قريته في فلسطين وإنتهاء
بصديق له مات مؤخرا ،مرورا بطفولته وشبابه وأحلامه وأصدقائه الآخرين الذين قضوا
إما إستشهادا أو إغتيالا أو وفاة طبيعية هكذا بسبب سكتة قلبية أو مرض ،كما أنه
تحدث عن الفندق البسيط الذي لاذ به وقت الشدة ،وباعه صاحبه لمستثمر آخر أراد هدمه
لبناء فندق 3 نجوم مكانه،ومن ثم إستأجر بيتا متواضعا في حي جبل اللويبدة الثقافي
القريب من رابطة الكتاب الأردنيين ،طلبا لبعض الراحة وتوفيرا لأجرة
التكسي،وإبتعادا عن روايات السواقين وإزعاجاتهم.
وفي محطة أخرى يتحدث نظمي عن
معاناته الجديدة هذه المرة من صياح ديك مزعج متواصل ليل نهار وفي أوقات غير منتظمة
،في الطابق السفلي من البيت الذي يقطنه فلسطيني ربما أراد بتربيته للديك تعويض
نفسه عما فقده في قريته بفلسطين المحتلة،ولذلك إقتنى ديكا وثلاث دجاجات.
وفي رمزية موغلة أخرى يقول نظمي
أن بيته يقع على مقربة من دائرة الأراضي التي باتت-أي الأراضي-ملكا للموتى ،بسبب
الخلافات الحادة بين الورثة أو ورثة الورثة،ويضيف في شكواه أن ديك جاره يصيح فجأة
دون سابق إنذار ،ليلا أو نهارا صبحا أو مساء ،ولا يهدأ خاصة بين الثانية عشر منتصف
الليل والرابعة فجرا،أو في الحادية عشر صباحا أو الواحدة بعد الظهر أو مساء في
الثامنة ليلا.
يحاول نظمي تفسير سلوك الديك
ويعزوه إما إلى إصابته بالعمى أو بصداع في رأسه أو به مرض ،دون أن يتنبه له صاحبه
فيعالجه،لكنه يطرد تلك الفكرة من رأسه لأنه كان يراه من شباك غرفته وهو يتمختر
أمام الدجاجات التي كانت تتبعه بحثا عن الطعام ،إذ يصيح فجأة كاكو كاك كاكوووو ،
فيشعرن بالإرتباك ويرجعن إلى القن الخشبي المخصص لهن وله.
ورغم إنزعاجه من الديك وصياحه
إلا أنه توصل إلى نتيجة مفادها أن وجود مثل هذا الديك ضروري في منطقة تعج بالبشر
والكلاب والقطط،وهنا يدخلنا نظمي في رمزية موغلة أخرى ليسقط أحوال الأمة البائسة
على أرض الواقع المعاش ،عندما يقول ان صراخ ديك واحد يصبح ضرورة وطنية إن لم تكن
قومية ،ليستفيق البشر أو يتنبهوا وهم رائحين جايين من وإلى دائرة الأراضي التي
كانوا يطلقون عليها الضفة الغربية،فيتنبهوا لما هم غافلين عنه بصراخ ذلك الديك
الذي لو صمت لثلاث ساعات،لظن ان ثمة أمر جلل قد وقع له على يد مندس غيره يكون قد
إغتاله.
يقول نظمي أنه قد إعتاد على ذلك
الديك المزعج كما تعتاد الشعوب العربية على كذب حكوماتها ،ولذلك بات يقلق على
الديك الذي أصبح مع العشرة والوقت صديقه المزعج ،الذي يخشى عليه من الشواء على
الفحم أو الطبخ في طناجر الضغط في مطاعم الوجبات السريعة أو البطيئة.
ينتقل المبدع نظمي في قصته إلى
رمزية أخرى عندما يقول أن فقدان جاره لقريته في فلسطين بعد حرب حزيران 1967،حال
دون أفكاره بخصوص منع أمانة عمان تربية الدجاج في المدينة لحرصها على الترويج
السياحي ،لافتا أن جاره ربما أراد إستعادة قريته تلك من وراء تربية الدجاج والديك
ولو كان ذلك في خياله.
ويستعين نظمي بالمنطق عندما يقول
أنه في حال سماعه لصياح الديك فإنه هو الآخر يستعيد قريته في فلسطين المحتلة،ويحمد
الله أنه ديك وليس حمارا ينهق أو كلبا يعوي ،وهذه رمزية عميقة أخرى.
بعد الحديث عن إنزعاجه من صياح
الديك العشوائي ،ينتقل نظمي إلى مرحلة اخرى وهي أنه تأقلم معه في نهاية المطاف
،وبات يداعبه ويرمي عليه نواة البرقوق من الشباك ،فيرتبك ويكف عن الصياح باحثا عن
مصدر النواة وأشياء أخرى كان نظمي يرميها عليه من شباك غرفته،ولا ينتظر الديك
طويلا حتى يعاود الصراخ كاك كاك كاكوووو،وانه شخصيا إعتاد عليه وأصبح يعد له رقميا
مسافة زمنية بين كل مكاكاة وأخرى ،ليكتشف ان الديك كان يحبط توقعاته بتغيير مواعيد
صياحه.
يصل نظمي في قصته إلى الخاتمة
وهي انه وبعد أحد عشر شهرا إستيقظ فجأة على صوت أنات وجعير حزين للدجاجات الثلاث
السمراوات ،ليكتشف أنهن فقدن ديكهن الأبيض صاحب الرقبة الحمراء ،وينقلنا في إسقاطة
أخرى أنه لا دخل له بخسارة الديك ،ولا بالهدوء الذي خيم على البيت كالسكون الذي
يخيم على المقبرة ودائرة الأراضي التي باتت مظلمة في إجازة نهاية الأسبوع .
ويشكو نظمي واقعه الحزين الجديد
بقوله :لا ديك حولي ولا من يكاكي أو حتى يعوي عواء إستغاثة والناس نيام ،ورفوف
وحواسيب دائرة الأراضي تحتضن كواشين الضفة الفلسطينية ،وربما يعلو ملفاتها أو
معلوماتها غبار الصحراء وهذه رمزية عميقة جدا.
وتاليا نص القصة:
صديقي
قصة قصيرة: تيسير نظمي
وهل بإرادة مني فقدت ما فقدت
طوال 67 عاما ؟ القرية،الطفولة،الشباب الذي مضى بكل تطلعاته وأحلامه! وهل بإرادة
مني أيضا فقدت أصدقاء في مقتبل أعمارهم ؟ الذين اسشهدوا أو تم اغتيالهم أو نفقوا
هكذا فجأة في الخمسين من أعمارهم أو دون الخامسة والستين أو في السابعة والستين مثلاً
؟ لا ، ليس بإرادة مني ؛ فأنا لا حول لي ولا قوة بأن نجوت طيلة هذا العمر الصاخب
بالحروب والسرطان والسكتة القلبية. حتى الفندق الذي لذت به كمكان أخير للإقامة به
تم بيعه لصاحب فندق مجاور؛ فأراد ترقيته بالهدم والإعمار لفندق بنجوم ثلاث ،
فاستأجرت بيتا صغيراً في حي اللويبدة قريبا من رابطة الكتاب ؛ لعلني أرتاح قليلاً
أو كثيرا إن شئتم من أجور التكسيات الصفر وغير الصفر وتذمر سائقيها من كل شيء و
حتى مني ومن صمتي الذي لا يلوي على أي شيء من كراهية أو ضغينة. لا ، ليس بإرادة
مني أيضا لذت بالصمت نتيجة عتب الأصدقاء الجدد من قلة وفائي ببعض المواعيد معهم أو
مع غيرهم ممن رأوا في تبدل مسكني مدعاة لسلوك طبقي لا سمح الله ولا قدّر. مثل أن
أغدوا متكبراً عليهم أو مترفعا عن لقياهم. لا، ليس بإرادة مني ابتُليت باديء ذي
بَدء بديكٍ لدى أحد جيراني في حي هادئ صامت. ذلك الديك الذي لم أبُح لأحدٍ بأنه
بات مزعجا في عدم انتظام مواعيد صراخه ، كي لا أقول نباحه ، في حي يعشق سكانه
الكلاب وأحيانا القطط. لكن جاري في الطابق السفلي كان له ما يشاء من تربية الدجاج
في مساحة يعتقد أنها باتت ملكه من الطابق الأرضي ؛ تعوضه عما فقد في فلسطين. ولما كانت
الدجاجات لا يعشن حياة طبيعية فقد اقتنى أيضا لهن ديكاً غير طبيعي مثلما كانت
الديكة تكاكي في مطلع الفجر في فلسطين؛ غير طبيعي أبدا ، على مقربة من دائرة
الأراضي التي باتت ؛ أي الأراضي، ملكاً للموتى فقط إثر خلافات حادة وصارخة بين
الورثة أو ورثة الورثة و ما بعد ! ديك جاري يصرخ فجأة في الليل، ولا يهدأ. ليس
صراخاً واحداً في مواعيد محددة بل صراخاً على فترات متقطعة بعد الثانية عشرليلاً
أو في الرابعة فجراً أو في الحادية عشر صباحاً أو في الواحدة بعد الظهر أو في
المساء أو في الثامنة ليلاً أو في الحقيقة في كل هذه الأوقات.
في البَدء قلت لنفسي : لعله أعمى ذلك الديك، أو لعله يشكو من صداع في الرأس ! بل لعله مريض دون أن ينتبه صاحبه لذلك فيستشير طبيباً مثلما أفعل أنا أحياناً مع رأسي أنا الذي بات يحتاج للعلاج أو الهدوء أو الدواء. لكن هذا الإعتقاد غدا غير ممكن تصديقه وأنا أراقبه من النافذة في الطابق العلوي يصول ويجول بحثا عن الطعام ومن ورائه الدجاجات الثلاث مستكينات لأمره حيث يذهب وحيث يتجول برأس مرفوع ، ثم فجأة : كاكوو كاك كاكووو ، فيجفلن راجعات من صرخاته إلى القن الخشبي الذي وضعه لهن ، ومن المفروض له أيضا، الجار الذي لم يعرف طوال عشر شهور بمعاناتي وصبري وقلة نومي. بل لا يعرف حتى اليوم بما أكابده من تمزيق ديك واحدٍ لسكينة حياتي وحاجتي لسويعات أنام بها كما ينام البشر الأسوياء.
ولا أخفي عليكم أنني بت أشغل نفسي بتفسيرات من خيالي الجامح لتفهم الديك وحاجة الدجاج الطبيعي لوجوده بينهن. بل ولضرورة أن يوجد ديكٌ واحدٌ على الأقل في حي ينام فيه من ينام من البشر والكلاب والقطط. ولما كانت الصرخات التي لا تنقطع لساعة أو لبضع ساعة من اليوم على مقربة من أراض باتت متنازع عليها وملكٌ للموتى ؛ فإن صراخ ديكٍ واحدٍ يصبح ضرورة وطنية إن لم تكن قومية لأن يستفيق البشر أو ينتبهوا وهم رائحين جايين من وإلى دائرة الأراضي في عمان وفي الضفة الغربية ، كما يسمونها، فينتبهوا لما هم غافلون عنه بصراخ ذلك الديك الذي لو صمت ثلاث ساعات متصلة لقلت أن ثمة أمر جلل قد وقع وأن ثمة مندس غيري قد اغتاله على حين غرة. أو ربما أحد الجوعى اصطاده ليعمل منه خبزاً مسخناً أو طبخة فريكة. ولا أخفي عليكم قلقي لو أنه صمت يوما واحداً أو نصف يوم. فقد اعتدت عليه رغم أنه مزعج كما يعتاد الشعب أو أي شعب على وعود حكومة كاذبة وما أكثرها في مضارب العرب وبلادهم الضاجة بالثروات المهربة إلى حيث لا يعلم كثيرون من عموم الناس الأشقياء ونصف الأشقياء. و هكذا بدأت أخشى على الديك الذي بات مع العشرة والوقت صديقي المزعج الذي أخشى عليه من الشواء على الفحم أو بطناجر الضغط في مطاعم الوجبات السريعة والوجبات البطيئة. وكنت أعلم من بعض الأصدقاء أن تربية الدواجن في حيٍ مثل حي اللويبدة من العاصمة عمان لأمر جلل لو علمت به أمانة عمان ، لأن تربية الدواجن مسموحة فقط في القرى البعيدة عن المدن. وأن جارنا يرتكب مخالفة تغرمه عليها أمانة عمان التي تريد ترويجا سياحيا للعاصمة ، وبالتالي فإن ذلك الديك ربما أزعج السياح الأجانب الذين يرتادون حي اللويبدة تحديداً الذي أطلق على ساحة من ساحاته اسم “دوار باريس” أو “ساحة باريس”، فهل بات في باريس ديك منذ هجرها الشاعر آرثر رامبو غداة فشل الكومونة؟
غير أن فقدان الجار لقريته بعد حرب 5 حزيران 1967 ، حال دون كل هذه الأفكار التي راودتني بالشكوى. فلعل الجار صاحب الديك يريد استعادة بلدته تلك من وراء تربيته للدجاج والديك ولو في خياله. كنت كلما كاكا الديك الممسوس أقول أنا أيضاً لنفسي : ” ها أنا أيضا أستعيد ذكرياتي في بلدتي وأحمد الله أنه ديكٌ وليس كلباً أو حماراً يصدح بالنهيق على حين غرة.” باختصار يا سادة يا كرام ، تأقلمت مع وجود ديكٍ ممسوس في حياتي في مسكني الجديد. بل أسلمت أمري لكل خيالاتي وفلسفتي للأمور. ومن فرط التأقلم والصبر أصبحت أداعبه أحيانا بضرب نواة البرقوق عليه فيرتبك ويكف عن الصراخ مستطلعاً من أين سقطت عليه نواة البرقوق تلك وكيف؟ لكنه والحق يقال لا يطول استطلاعه أو ارتباكه حتى يعاود الصراخ أو النباح إن شئتم ، من جديد. و من شدة الأرق ، سأقول لكم كيف كنت أعزي أو أسلي نفسي معه. فقد بت أعد له رقميا مسافة الزمن بين كل مكاكاة له والتي تليها لأكتشف عدم الانتظام الوقتي بين واحدة وأخرى. أعد له مثلا حتى رقم 15 في المرة الأولى ثم أعد الخمسة عشر الثانية لأكتشف أنه يخذل الرقم ويستبدله برقم عشرين. في الثالثة أعد له حتى رقم عشرين فيخذلني أيضا ويكاكي عند بلوغي الرقم 27 وهكذا أمضي بعض الليالي أعمل بوظيفة عدادٍ مخلص لديك ممسوس.
وبين قذفي له بقشرة بطيخ أو حبة كستناء أو نواة صلبة لفاكهة لا أعرف اسمها وبين العد لفترات التقطع في الصراخ أو المكاكاة أو النباح ، قضيت أحد عشر شهراً قبل الليلة المفجعة عندما صحوت فجأة على صوت أنّات بل وجعير حزين للدجاجات الثلاث السمر ، حيث كان الديك المدعو أبيض اللون أحمر الرقبة، وبت أتساءل في الليل عن السبب الذي جعل الديك يصمت فجأة ولأول مرة بعد الأحد عشر شهرا أسمع عويل الدجاجات الذي سمعته لأول وآخر مرة .
اليوم ، أنا في الشهر الثاني عشر من التحاقي بسكان اللويبدة ، وأكتب قصتي مع الديك الذي فقدته فجأة ودون سابق إنذار. اليوم أو على سبيل الدقة في هذه الليلة بالذات ، أكتب لكم هذه القصة ، ودون إرادة مني، لأقول لكم من خلال ما سبق أعلاه أنني لا دخل لي بهذه الخسارة ، ولا بهذا الهدوء المخيم كما لو أنه مخيم على مقبرة ، ودائرة الأراضي أيضاً هادئة بل ومظلمة وفي إجازة نهاية الأسبوع؛ لا ديك حولي ولا من يكاكي أو حتى يعوي عواء استغاثة والناس نيامٌ، ورفوف وحواسيب دائرة الأراضي ربما يعلو ملفاتها أو معلوماتها غبار الصحراء. حتى أصوات السيارات اختفت ولا من أحد، أو حتى رنة هاتف بالخطأ، الليلة وبعد حريق القنصلية الإيرانية في النجف. وفي هذه الساعات الموات أستذكر صديقي الذي فقدته، صديقي الوحيد في الأردن الذي فقدته أيضا؛ ودون إرادة مني، أفقد كل الاحتمالات التي صنعتها بنفسي لي، لجاري الذي لم أسأله ماذا حل بذلك الديك، ولا حتى بآخر عويل للدجاجات قبل مجزرة محتملة لهن. هذه الليلة؛ عن أي شيءٍ سوف أسألكم. وعن أي ديكٍ سوف أتحدث إليكم في الليل المقبل؟
في البَدء قلت لنفسي : لعله أعمى ذلك الديك، أو لعله يشكو من صداع في الرأس ! بل لعله مريض دون أن ينتبه صاحبه لذلك فيستشير طبيباً مثلما أفعل أنا أحياناً مع رأسي أنا الذي بات يحتاج للعلاج أو الهدوء أو الدواء. لكن هذا الإعتقاد غدا غير ممكن تصديقه وأنا أراقبه من النافذة في الطابق العلوي يصول ويجول بحثا عن الطعام ومن ورائه الدجاجات الثلاث مستكينات لأمره حيث يذهب وحيث يتجول برأس مرفوع ، ثم فجأة : كاكوو كاك كاكووو ، فيجفلن راجعات من صرخاته إلى القن الخشبي الذي وضعه لهن ، ومن المفروض له أيضا، الجار الذي لم يعرف طوال عشر شهور بمعاناتي وصبري وقلة نومي. بل لا يعرف حتى اليوم بما أكابده من تمزيق ديك واحدٍ لسكينة حياتي وحاجتي لسويعات أنام بها كما ينام البشر الأسوياء.
ولا أخفي عليكم أنني بت أشغل نفسي بتفسيرات من خيالي الجامح لتفهم الديك وحاجة الدجاج الطبيعي لوجوده بينهن. بل ولضرورة أن يوجد ديكٌ واحدٌ على الأقل في حي ينام فيه من ينام من البشر والكلاب والقطط. ولما كانت الصرخات التي لا تنقطع لساعة أو لبضع ساعة من اليوم على مقربة من أراض باتت متنازع عليها وملكٌ للموتى ؛ فإن صراخ ديكٍ واحدٍ يصبح ضرورة وطنية إن لم تكن قومية لأن يستفيق البشر أو ينتبهوا وهم رائحين جايين من وإلى دائرة الأراضي في عمان وفي الضفة الغربية ، كما يسمونها، فينتبهوا لما هم غافلون عنه بصراخ ذلك الديك الذي لو صمت ثلاث ساعات متصلة لقلت أن ثمة أمر جلل قد وقع وأن ثمة مندس غيري قد اغتاله على حين غرة. أو ربما أحد الجوعى اصطاده ليعمل منه خبزاً مسخناً أو طبخة فريكة. ولا أخفي عليكم قلقي لو أنه صمت يوما واحداً أو نصف يوم. فقد اعتدت عليه رغم أنه مزعج كما يعتاد الشعب أو أي شعب على وعود حكومة كاذبة وما أكثرها في مضارب العرب وبلادهم الضاجة بالثروات المهربة إلى حيث لا يعلم كثيرون من عموم الناس الأشقياء ونصف الأشقياء. و هكذا بدأت أخشى على الديك الذي بات مع العشرة والوقت صديقي المزعج الذي أخشى عليه من الشواء على الفحم أو بطناجر الضغط في مطاعم الوجبات السريعة والوجبات البطيئة. وكنت أعلم من بعض الأصدقاء أن تربية الدواجن في حيٍ مثل حي اللويبدة من العاصمة عمان لأمر جلل لو علمت به أمانة عمان ، لأن تربية الدواجن مسموحة فقط في القرى البعيدة عن المدن. وأن جارنا يرتكب مخالفة تغرمه عليها أمانة عمان التي تريد ترويجا سياحيا للعاصمة ، وبالتالي فإن ذلك الديك ربما أزعج السياح الأجانب الذين يرتادون حي اللويبدة تحديداً الذي أطلق على ساحة من ساحاته اسم “دوار باريس” أو “ساحة باريس”، فهل بات في باريس ديك منذ هجرها الشاعر آرثر رامبو غداة فشل الكومونة؟
غير أن فقدان الجار لقريته بعد حرب 5 حزيران 1967 ، حال دون كل هذه الأفكار التي راودتني بالشكوى. فلعل الجار صاحب الديك يريد استعادة بلدته تلك من وراء تربيته للدجاج والديك ولو في خياله. كنت كلما كاكا الديك الممسوس أقول أنا أيضاً لنفسي : ” ها أنا أيضا أستعيد ذكرياتي في بلدتي وأحمد الله أنه ديكٌ وليس كلباً أو حماراً يصدح بالنهيق على حين غرة.” باختصار يا سادة يا كرام ، تأقلمت مع وجود ديكٍ ممسوس في حياتي في مسكني الجديد. بل أسلمت أمري لكل خيالاتي وفلسفتي للأمور. ومن فرط التأقلم والصبر أصبحت أداعبه أحيانا بضرب نواة البرقوق عليه فيرتبك ويكف عن الصراخ مستطلعاً من أين سقطت عليه نواة البرقوق تلك وكيف؟ لكنه والحق يقال لا يطول استطلاعه أو ارتباكه حتى يعاود الصراخ أو النباح إن شئتم ، من جديد. و من شدة الأرق ، سأقول لكم كيف كنت أعزي أو أسلي نفسي معه. فقد بت أعد له رقميا مسافة الزمن بين كل مكاكاة له والتي تليها لأكتشف عدم الانتظام الوقتي بين واحدة وأخرى. أعد له مثلا حتى رقم 15 في المرة الأولى ثم أعد الخمسة عشر الثانية لأكتشف أنه يخذل الرقم ويستبدله برقم عشرين. في الثالثة أعد له حتى رقم عشرين فيخذلني أيضا ويكاكي عند بلوغي الرقم 27 وهكذا أمضي بعض الليالي أعمل بوظيفة عدادٍ مخلص لديك ممسوس.
وبين قذفي له بقشرة بطيخ أو حبة كستناء أو نواة صلبة لفاكهة لا أعرف اسمها وبين العد لفترات التقطع في الصراخ أو المكاكاة أو النباح ، قضيت أحد عشر شهراً قبل الليلة المفجعة عندما صحوت فجأة على صوت أنّات بل وجعير حزين للدجاجات الثلاث السمر ، حيث كان الديك المدعو أبيض اللون أحمر الرقبة، وبت أتساءل في الليل عن السبب الذي جعل الديك يصمت فجأة ولأول مرة بعد الأحد عشر شهرا أسمع عويل الدجاجات الذي سمعته لأول وآخر مرة .
اليوم ، أنا في الشهر الثاني عشر من التحاقي بسكان اللويبدة ، وأكتب قصتي مع الديك الذي فقدته فجأة ودون سابق إنذار. اليوم أو على سبيل الدقة في هذه الليلة بالذات ، أكتب لكم هذه القصة ، ودون إرادة مني، لأقول لكم من خلال ما سبق أعلاه أنني لا دخل لي بهذه الخسارة ، ولا بهذا الهدوء المخيم كما لو أنه مخيم على مقبرة ، ودائرة الأراضي أيضاً هادئة بل ومظلمة وفي إجازة نهاية الأسبوع؛ لا ديك حولي ولا من يكاكي أو حتى يعوي عواء استغاثة والناس نيامٌ، ورفوف وحواسيب دائرة الأراضي ربما يعلو ملفاتها أو معلوماتها غبار الصحراء. حتى أصوات السيارات اختفت ولا من أحد، أو حتى رنة هاتف بالخطأ، الليلة وبعد حريق القنصلية الإيرانية في النجف. وفي هذه الساعات الموات أستذكر صديقي الذي فقدته، صديقي الوحيد في الأردن الذي فقدته أيضا؛ ودون إرادة مني، أفقد كل الاحتمالات التي صنعتها بنفسي لي، لجاري الذي لم أسأله ماذا حل بذلك الديك، ولا حتى بآخر عويل للدجاجات قبل مجزرة محتملة لهن. هذه الليلة؛ عن أي شيءٍ سوف أسألكم. وعن أي ديكٍ سوف أتحدث إليكم في الليل المقبل؟
28-11-2019
اللويبدة – عمان
– الأردن
اللويبدة – عمان
– الأردن
تعليقات