«صورة امرأة» للويجي بيراندلو: رغبة في الحياة وشغف الى الابتكار!


 



«صورة امرأة» للويجي بيراندلو:
رغبة في الحياة وشغف الى الابتكار!
دراما حياة الممثل وكيفية إعطاء المتعة للآخر
محمد سيف
JULY 10, 2014

إن نص مسرحية (صورة امرأة)، هو صورة غير عادية لامرأة وممثلة تدعى (دوناتا جينزي)، مشتته في العديد من الشخصيات التي مثلتها إلى درجة انها لم تعد تعرف نفسها بل وحتى من تكون. ومن أجل أن تعثر على نفسها، تقوم بمغامرة عاطفية للهرب من المسرح. ولكن مهنتها كممثلة، تسيطر على تصرفاتها كامرأة، في كل حركة ولفتة، وإن كل نبرة من نبرات صوتها تذكرها بإحدى الشخصيات التي لعبتها من قبل، ولهذا، فهي غير قادرة على مغادرة المسرح دون ان تكون ملاحقة من قبل الادوار التي خلقتها.
وهكذا، تكتشف بأنها لا تستطيع أن تحقق ذاتها إلا من خلال مهنتها كممثلة، فتقرر العودة الى المسرح في مغامرة أخيرة لها ، حيث تعرض قصة حبها الى الخطر من خلال عودتها بشكل نهائي، إلى المسرح، إن هذا المنظور العاطفي يعتبر واحدا من الاسباب التي دفعت المخرج ستانيسلاس نوردي لأن يختار مسرحية «حدث»، وهو الذي لم يقدم بيراندلو من قبل ابدا. إن ما اثاره فيها، هو بعد السيرة الذاتية فيها، فإن بيراندلو، مثلما يقول المخرج، لم يكتب النص فقط للممثلة مارتا آنا، أو حولها، وإنما انه كتب مارتا آنا، على غرار ما كتبه جان لوك غودار، عن الممثلة الدنماركية آنا كارينا، ولكن بشكل اقل.
إن هذه المسرحية، قصة امرأة تكرس نفسها للفن، وقصة لعلاقة مستحيلة، وتفكير في المسرح. صورة لامرأة معقدة ومتباينة. قصة سوء فهم، وخلاف عميق ومشاركة حول كيفية اعطاء المتعة للآخر. قصة إدانة، وهي في هذا المعنى، تعتبر مسرحية وصايا، يدوي صداها من خلال المراسلات المتبادلة بين بيراندلو ومارتا آنا، وقصة غناء بهيج وبائس لقوة الفن، يصور تأرجح الفنان بين السماء والارض، وقصة تفكير وتأمل، حول الثمن الذي يجب عليه دفعه هذا الأخير، من اجل البقاء في اعلى مراحل التألق الفني.
نلاحظ أن في أغلب اعمال لويجي بيراندلو المسرحية، مثل: ست شخصيات تبحث عن مؤلف، الليلة نرتجل، وعمالقة الجبال، ومسرحية حدث أو «صورة امرأة»، أن هناك بحثا عن الحقيقة يتأرجح بين الرغبة في العيش في الحياة وبين الشغف إلى الابتكار. إن نوردي ستانيسلاس، قارئ كبير للنصوص المعاصرة، ويحب أن يعود من حين لآخر نحو الأعمال الكلاسيكية لمطاردة الحداثة فيها. فبعد تقديمه نص (العادلون) للبير كامو، يتناول ولأول مرة عمل من أعمال بيراندلو، ويعثر في مركز عمله على شخصية امرأة معقدة ومكافحة كما يحب.
إن هذه المسرحية التي كتبت في عام 1932، ويقدمها حاليا المخرج نوردي ستانيسلاس على مسرح الكولين الفرنسي، تعتبر مثيرة للقلق في آنيتها وقوتها ومحتواها. وعلى الرغم من منولوجاتها الطويلة، ومن اعتبارها نموذجا للمسرح التأملي، فإنها قد احتوت على إيقاع جيد استطاع أن يقبض على الجمهور الأكثر ترددا. إن إخراجات نوردي ستانيسلاس المسرحية، تهتم دائما وابد في التفاصيل، ولكنه هذه المرة استغرق فيها إلى درجة إنه لم يهمل حتى المقدمة الاستهلالية للمسرحية. فلقد لا حظنا بمجرد ما دخلنا الى صالة العرض، أن هناك ممثلين يرتديان زي الخدم وهما يتناولان وجبة عشائهما أمام الجمهور. أما الفضاء المسرحي وتشكيله، فقد كان أنيقا جدا وغاية في الروعة، وكذلك حركة الممثلين، ونذكر على سبيل المثال، مشهد لعب الشطرنج من قبل الممثلين وكيفية تحريك البيادق على رقعة الشطرنج: حركات مستقيمة، ودائرية واحيانا مقتضبة، وفي مواجهة الجمهور، بحيث أن جميع الوجوه كانت تتجه نحو نفس الاتجاه. هذا بالإضافة إلى لعبة الضوء والظل التي كانت هي أيضا مدهشة للغاية: كل ظل يحيل الممثل الواحد شيئا فشيئا إلى ظلين، بحيث إنه يتغير ويتضاعف وفقا لعلاقات القوى الموجودة على الخشبة. أما السينوغرافيا التي صممت من قبل (ايمانويل كلولي)، فهي الأخرى كانت جميلة ومؤثرة جدا وكانت على هيئة لوحات ضخمة وأنيقة حلت محل الديكور، تذكرنا بمناخ طبقة النبلاء الإيطالية.
إن الموضوع الرئيسي الذي عالجه بيراندلو في مسرحيته هذه وبشكل خاص، هو دراما حياة الممثل والممثلة، الذين لديهم امكانيات كثيرة جدا في ميدان لعبهما، على عكس ما يمكن أن ينقصهم في الحياة المعاشة. ومع ذلك فإن مسرحية (صورة امرأة) لم تستطع أن تلم بمجمل حياة الممثل، هذا الكائن السحري الذي قال عنه شكسبير، بإنه روح العصر. ربما لأن الممثل مظهر من مظاهر وعي الشخصية، وعليه أن يبقى ممثلا، وأن يفكر بموجب شخصيته، وليس وفقا لمكانته كممثل، وإذا قام بعكس ذلك، فإنه سيغير الادوار ويصبح هو الشخصية وبهذه الطريقة يتحول إلى كائن يرى الأشياء من الخارج، ويفقد امكانيته على التموضع في الحالة المسرحية. إذن والحالة هذه، هل أن الفن والحياة يصعب التوفيق بينهما ؟ إن مسرحية (صورة امرأة) هي أيضا كتابة لرحلة البدء الذي على الممثل أن يتغلب عليها من أجل العثور على الحقيقة.
لقد أهدى بيراندلو هذه المسرحية إلى الممثلة الإيطالية (مارتا آبا)، بعد أن كرس الكثير من حياته لزوجته (انطونينيتا)، التي كانت دائما على حافة الجنون. وعندما التقى بـ(مارتا آبا)، أصبحت هذه الممثلة ملهمته وموضع ايثاره واصطفائه. وانطلاقا من هذا اللقاء، صار يكتب لها جميع الأدوار النسوية الكبيرة في مسرحياته. ولقد وصل به الحال، أنه استوحى من أجلها هذا العمل وبشكل علني من نص (حورية البحر) للكاتب النرويجي (أبسن)، واخرجه للمسرح بنفسه وكانت (مارتا آبا) تلعب دور البطلة فيه.
أنا أحب المسرح، مثلما أحب جميع أشكال الأداء والعروض الحية، ولكنني احب هذا الفن بشكل خاص، ربما لأن في كل عرض من العروض يكون للمسرحية المكتوبة نكهة خاصة وفريدة من نوعها، وربما أيضا، لأنه أيضا يشعر المرء فيه بالحياة من خلال تصاعد ونزول انفاس الممثلين، وتوقفاتهم وترددهم وحيرتهم. واعتقد إن هذا بالضبط ما تطرحه مسرحية بيراندلو من أسئلة ومواضيع. إنها تطرح هذه الأسئلة من خلال ممثلة تدعى (جانيز دونالد) التي تجد نفسها في مواجهة أزمة وجودية. إن مسرحية (صورة امرأة) تطرح افكار حول حقيقة حياة كل فرد منا، (وخاصة وبكل تأكيد حالة الممثل). لا سيما أن في هذا العصر، كل شخص يستطيع أن يرتدي واجهة صغيرة من أجل أن يظهر امام العالم اجمع بالمظهر الذي يريد أن يظهر به أمامهم، ولكنه في نفس الوقت يخفي ما يناسبه. ويبدو لي أن بإمكان هذه المسرحية ان تجد صداها في جميع الاجيال وبالطبع، في نفس كل فرد على حده، لأنها تذهب في طروحاتها إلى ما هو ابعد كثير من حالة الممثل كما هو ظاهر فيها.
كيف يمكن أن نعرف من نحن على وجه التحديد؟ عندما تسقط الاقنعة حقا ؟ وهل يمكن أن نعثر على ذلك من خلال الآخر؟ وأن نبقى محبوبين دون نسيان؟ والجواب: هو علينا أن نكون مبدعين، هذا ما فهمته من هذا العرض، ليس عن طريق الصدفة، لأن العرض يذهب تماما في هذا الاتجاه، وعلى ما اعتقد، إن كل شخص بإمكانه أن يكتشف ذلك من خلال اللقاءات والمناسبات التي تميز حياته والتي تكشف لنفسه الكثير عنها. إن الفرد عبارة عن فسيفساء، ويتألف قليلا من كل شيء ومن كل هذا الذي يحبه وأحبه على امتداد حياته. فنحن دائما بإزاء موقفين متناقضين بالنسبة للشيء الواحد، بل أن وجهات النظر في أمر من الأمور، تختلف وتتعدد بتعدد الشخصيات. فأين الحقيقة وأين الوهم؟ لا سيما أن الحقيقة هي ما يريد كل شخص أن يعتقد أنها الحقيقة، وهي بالنسبة لي ما أعتقده أنا وهي بالنسبة لغيري ما يعتقده هذا الغير. أما عن الحقيقة في ذاتها فلا وجود لها، لأن كل شيء نسبي، فالوجود والافكار والذات والموضوع والأخلاق والحياة والموت أمور نسبية. أليس هذا ما يريد أن يقوله لويجي بيراندلو في نهاية الأمر؟.
وهذا ما يؤكد، أن لكل شخصية لها جانبان. جانب باطني ذاتي وجانب آخر ظاهر، ومعنى ذلك، أن ثمة ازدواج في الشخصية. وهذا الازدواج بلا شك يحمل بين طياته كل مقومات التناقض والغرابة والشذوذ. ويرى بيراندلو في هذه المسرحية أن هذا التناقض وتلك الغرابة وهذا الشذوذ أمور طبيعية لأن الحياة نفسها مليئة بالتناقض والغرابة والشذوذ. أي أن بيراندلو يصل في عمله هذا إلى إنكار الحقيقة الموضوعية ويجعل منها مسألة نسبية. إن موضوع بيراندلو المفضل، هو مسألة الهوية في عيون الآخرين، وهو في هذه المسرحية يدفعه إلى أقصى الحدود. وقد فاقم إخراج ستانيسلاس موردي من فكرة اضطراب الهوية هذه. « أنا هو آخر» مثلما يقول رامبو. وكان بإمكان «دوناتا» الممثلة أن تقول الشيء نفسه، وهي التي فقدت «الأنا» في اللعب. وقد ساهم الديكور في التعبير والتضخيم في شكوك الممثلة، بوضعه مرآة طويلة وكأنها سقطت من السماء لإجبارها على مواجهة نفسها فيها، ولكن ايضا لكي تنظر لجمهورها من خلالها، وتذكرها بالمشهد الذي تلعبه.
عرض لنا الفصل الاول، مشهدا كلاسيكيا لأحدى البيوت الارستقراطية التي تذكرنا بعمارية النمط الفاشي للعمارة (ويجب ان لا ننسى بأن المسرحية قد كتبت في سنوات الثلاثين، وإن بيراندلو كان متعاطفا ولفترة طويلة مع افكار موسوليني)؛ وقدم لنا الفصل الثاني استوديو الفنان «إيلي»، حيث الممثلين يلعبون ادوارهم على طريقتهم الخاصة. وتفتح الابواب والفضاء، عندما يشعرون بأنهم على استعداد للانفتاح على الاخرين. أما الفصل الثالث فيأتي بعد حلول الظلام. وعندما ترفع الستارة يجد المتفرجين انفسهم حرفيا في اسفل جدار، أخضر فيروزي ذات انماط مخدرة. ولا بد من التذكير هنا بالأهمية الرمزية للون الأخضر، المحظور منذ فترة طويلة في المسرح، باعتباره نذير شؤم، وإن اللون الأخضر هنا يمثل «دوناتا.« وقد اصابتنا الدهشة ونحن نشاهد الخشبة وهي تتآكل بشكل تدريجي من قبله، وكأنها قد اصيبت او تعرضت لعفن فطري. ونشاهده في البداية كيف يتفشى في ثوب الممثلة دونا جينزي، ثم يبدأ باجتياح الأرض في الفصل الثاني من خلال ظلاله المقلقة. وكيف يطغى في الفصل الثالث على كل شيء، مثل موجة كبيرة، تطل وتحيط بنا.

محمد سيف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نص قصيدة عماد الدين نسيمي كاملا حسب أغنية سامي يوسف

من اهم الكتب الممنوعه في الاردن: جذور الوصاية الأردنية وجميع كتب وترجمات تيسير نظمي

بيان ملتقى الهيئات الثقافية الأردنية وشخصيات وطنية حول الأونروا