«سجلّ أنا عربي»: فيلم يروي الحب الأول لمحمود درويش
وديع عواودة
MAY 24, 2014
الناصرة – «القدس العربي»: «الحب أعمى»،
يقول المثل الإنكليزي وهو ينطبق على الحالة الفلسطينية- الإسرائيلية. حينما تلتقي العيون
والقلوب فهي لا تأبه بصراع دام بين شعبي المحبيّن. هذه قصة الراحل محمود درويش مع تمار
بن عامي، التي تحكي حبهما الأول وهما في مقتبل الشباب كما يروي «سجّل أنا عربي»، الفيلم
الجديد الذي يكشف للمرة الأولى سلسلة رسائل حب ملتهبة بينهما.
الفيلم الذي تعتبره مخرجته ابتسام مراعنة
«وثائقيا» ويعرض هذه الأيام في إسرائيل، يتناول محطات في مسيرة الشاعر الفلسطيني محمود
درويش، عن طريق قصتي حب دراميتين الأولى لامرأة يهودية والثانية لابنة دبلوماسي سوري.
ويحاول الفيلم إظهار التوتر المزدوج في حياته، الأول مرتبط برومانسيته وعشقه للجمال
وبين رمزية المقاومة الفلسطينية في شعره.
في واحدة من هذه الرسائل المكتوبة بالعبرية
يقول محمود وهو في العشرين من عمره وقتها، إنه لا يكتب بل يهمس في أذن حبيبته ويتابع
«صحيح أنك
لست عندي الآن لكنك ما زلت معي. أسمع صوتك يعوم في نور عينيك، اتكىء على كتفك، أتناول
الطعام وإياك وأضغط على يدك المستقرة بيدي كعصفور لا يرغب أن يطير. إلى أين يطير؟ من
عندي إلى عندي. تماري أراك وأشعر بك كل لحظة. بوسعك أن تخلدي للنوم بهدوء دون أحلام
مزعجة وبلا ظنون. أنت في غرفتي.. داخل سريري…في حقيبتي.. في كتابي.. في قلمي.. في قلبي..
وفي دمي. ثمة أمر جديد أريد أن أكشفه لك فلا تندهشي. اليوم حدقّت بالمرآة وشاهدت محمودا
جديدا. أكثر حلاوة وصحة وسعادة. تماري، لن أسألك هذه المرة متى نلتقي لأننا معا.. مودتي،
محمود».
وفق الفيلم الجديد وهو للمخرجة ابتسام مراعنة،
التقى محمود درويش تمار بن عامي وهي تشارك في جوقة الشبيبة التابعة للحزب الشيوعي.
سمعها وهي تنشد ومن جهتها سحرتها قصيدته وهو يلقيها فاشتعل الحب بقلبيهما الصغيرين.
تمار هي اليوم مديرة لمشاريع فنية توزع وقتها بين برلين وبين تل أبيب. طيلة خمسة عقود
وأكثر حفظت تمار رسائل الغزل والحب الرقيقة التي أرسلها محمود بجانب رسائلها المكتوبة
بطعم العتاب. وتوضح تمار في الفيلم أنها حفظت حبها السري لمحمود درويش نحو 50 عاما
لاعتباره شأنا خاصا مرتبطا بحب مستحيل بين فلسطيني ويهودية. بعد ست سنوات على رحيل
درويش تجرؤ تمار على فتح صندوقها الخشبي الذي أودعت فيه قطعة ثمينة وغالية من حياتها.
وتعترف تمار في الفيلم أن هذه الجزئية من عمرها كانت صاخبة وأن قراءة الرسائل من جديد
عملية موجعة وقاسية خاصة بعدما «أدركنا أننا عالقين. محمود ليس علاقة عابرة في حياتي،
ومن بين كافة علاقاتي كان الوحيد الذي أحلم به حتى اليوم وطالما تخيلت مولودا مشتركا
لنا ومحمود الشخصي والقومي ما زال يظهر لي بالمنام». وتمار في الثامنة والستين من عمرها
اليوم، ولدت في حيفا لأب وأم مهاجرين من روسيا وبولندا وفي 1960 انضمت لجوقة الشبيبة
الشيوعية (العربية- اليهودية) وقدمت أول عروضها في مدينة شفاعمرو.
وتستذكر تمار في الفيلم الذي يوثق سيرة
الشاعر الفلسطيني الأول ذلك اليوم المشهود بالقول إن محمود تلا قصيدتين وتتابع «أذكر
تلك الأمسية كأنها بالأمس. خلال عرض الجوقة التقت عيوننا وتطاير شرار الحب على الفور.
كان محمود بالثانية والعشرين من عمره جميلا كالإله الاغريقي أما أنا فكنت ابنة نحو
17 عاما».
في رسالة أخرى يكشف محمود
عن عشقه للصبية اليهودية
« تماري سلام، تأملاتي بيوم الخميس، أي بك لم تنته بعد. لا أعرف
كيف استهل محادثتي معك وكيف أنهيها. لكنني راغب بالبوح لك تماري الحلوة أن قبلتك الخاطفة
كانت كقبلة العصفور.. وهي قبلة إنسانية نجحت بتطهير الفؤاد تماما من كل ظن، سؤال، شك
وكراهية. كل احترام لقلبك الطاهر يا تماري. أنا في انتظارك».
في رسالة أخرى يقول محمود:»تماري، بداية اعتذاري.
لم أكتب فورا لأنني رغبت تلقي رسالتك الإضافية التي وعدت بها ولم تبلغني بعد. بما أنني
غير راغب بإدارة سباق معك جلست في غرفتي وبدأت أكتب. السبت. القرية. الكتب متناثرة
على طاولتي الفوضوية وبجانبها صحف ومجلات وفناجين قهوة هنا وهناك. أنا غارق بالتفكير
بأن القصيدة هي عمل حقيقي ليس فقط حينما يجلسون ويكتبون كلمات على الورق إنما هي عمل
متواصل ليل نهار. أعرف أنك راغبة بمعرفة ما إذا كتبت جديدا. نعم. الكثير من الجديد.
بالمناسبة اعتلت صحتي ثلاثة أيام والطبيب منعني من التدخين وتناول الكحول، وبخّني.
وهو طبيب مهووس. تحديا له دخنت وشربت فوق العادة فماذا كانت النتيجة؟ لم أمت. بالعكس،
شعرت بالتحسن».
تمار التي أبقت حبها لمحمود طي الكتمان
طيلة عقود تقول في الفيلم إن والديها مناهضين للصهيونية ومن مؤيدي الحزب الشيوعي وكانت
هي تنتمي لشبيبة الحزب وتؤمن بالقيم الاشتراكية والأممية كالحرية والمساواة والأخوة.
وتنوه أن محمود ألقى قصائده في المهرجانات ورافقه الشاعر الكسندر فان وكان وسيما، كريما،
اجتماعيا وذكيا. وتضيف «صار محمود يتردد على زيارتنا في البيت كصديق وحينما توثقت علاقتي
به تحفظ أهلي وسكنهم القلق خاصة والدي أما والدتي فكانت أسيرة سحر شخصية محمود». وقادت
مخاوف الأهل لإرسال تمار للتعلم في أكاديمية للموسيقى والرقص في القدس بغية إبعادها
عن محمود. وفي واحدة من زياراتها لحيفا زارت ومحمود صديقتها وزميلتها روني سيجل. عندما
انتصف الليل وتوقفت حركة الحافلات اقترح محمود على تمار أن يستضيفها. عن ذلك تقول
«نتحدث عن خمسة عقود إلى الخلف. الفترة مختلفة ومعايير الأخلاق كانت مختلفة. أن تبيت
خارج البيت هذا أمر مهول. لم يعرف والدي أين أنا واضطررنا لبناء شبكة كذب للإفلات من
الحرج لكن حبل الكذب قصير ولم أكن لا أنا ولا محمود أبطالا في الكذب. طلبنا من روني
أن تتصل بأهلي وتبلغهم أنني سأبيت عندها بسبب الساعة المتأخرة ليلا. لكنها لم تفعل
ذلك ولم نغمض عيوننا تقريبا وقد خشي محمود علي وكنت متكئة على كتفه باكية. بكيت على
حالنا: لماذا لا نستطيع أن نكون سوية. لماذا لا يكون ذلك ممكنا دون كذب؟ لماذا هذا
ليس ممكنا..؟
في أعقاب «الفضيحة» التي هزتهما من الأعماق
كتب محمود رسالة جديدة قال فيها :»إلى حبيبتي الوحيدة في العالم. صدقيني لم تكن حالتك أقسى
من حالتي. كنت معك لحظة بلحظة وكل الوقت كنت مشغولا بالتفكير. باليوم التالي لم أعمل
وقد زارني شقيقي وزوجته فجالستهما خمس دقائق وهربت. رغبت أن أعرف ماذا جرى لك في البيت
بعدما عدت من حيفا خاصة أن أمك طلبتني بالهاتف كما أخبرني الزملاء في المكتب. بعدها
دخل «جورج» وروى لي ما يحدث. ولم أقو على القول إنني لم أشاهدك. تماري، هذه المرة أؤمن
أن الكلمات عاجزة. لماذا اتهم نفسي طالما أننا نعرف أن كل شيء كان سيمر بسلام لولا
قلة مسؤولية روني. رغبت بالسفر إليك للقدس كي أهدأ روعي وروعك. توجهت للحاكم العسكري
بعد ظهر يوم الأحد للحصول على تصريح سفر فرفض طلبي. كانت أوقات حلمت بها باحتساء الشاي
معك عند الغروب أي أن نكون شركاء في الفرح والسعادة. صدقيني يا غاليتي أن هذا يزيد
قلبي دفئا عندما تكونين بعيدة، ليس لأنني أحبك أقل بل لأنني أحبك أكثر. مرة أخرى أكرر
أمامك أنني معك وأنت لست وحيدة. ربما ستعانين بسببي لكنني أمثل لجانبك ولا أخفي شيئا.
شكرا لك تمار،ل أنك منحت حياتي مذاقا معينا. إلى اللقاء. محمود».
عاد إلى حيفا
الفيلم «سجّل أنا عربي» يستعيد مسيرة محمود
من البدايات ويتوقف عند تحوله لشاعر فلسطين وأحد الشعراء العرب الأكثر شعبية وحبا بالعالم
العربي. محمود الذي وظف شعره ضد الاحتلال اعتقل عدة مرات وغادر البلاد في 1970 إلى
موسكو وحرم من العودة حتى عاد للمرة الأولى في 2007 إلى حيفا مدينته المدللة وأحيا
أمسية شعرية فيها. وفي العام التالي توقف قلبه عن النبض فمات دون أن يخلف أولادا رغم
زواجه بسيدة سورية (رنا قباني ابنة شقيق الشاعر الراحل نزار قباني وسيدة مصرية تدعى
حياة الهيني). قبيل اعتقاله في سجن «معسياهو» بسنوات الستين كتب محمود لتمار: «تماري، أنا مضطر للقائك
قبل دخولي المعتقل. استجيبي لطلبي وتعالي لحيفا فورا. لا تملكين وقتا لكتابة رسالة
جوابية.. كوني أنت الجواب.. انتظرك.. انتظرك .. لا تخيبي أملي… تعالي».
لم تنجح تمار في القدوم إلى حيفا وهي اليوم
تبدي أسفا كبيرا لأنها لم «تقاتل» كفاية حتى يتسنى لها رؤيته قبل الاعتقال وتقول في
الفيلم، «هذا
يوجعني حتى اليوم وطيلة سنوات بقيت مسكونة بالشعور بالندم. اليوم ومن شرفة الأيام والنظر
للخلف أقول بسري لم أقو على استيعاب حبه الكبير وعظمة الشخص. كنت بحاجة لوقت يساعدني
على الهضم. كنت يافعة جدا».
بعد سنوات من الحب قطعت تمار علاقتها بمحمود
بعدما شعرت بالحاجة أن تبقى «داخل الدائرة الإسرائيلية» وفي الفيلم تقول «شعرت أنني انجرفت
أكثر من اللازم لجهة واحدة. تضررت هويتي وربما لأنني كنت صغيرة ولأنني كنت مشغولة بتعليمي
وحملت نفسي الشعور بالذنب بسبب الفراق ولم أملك القوة لمواجهة الصعاب».
من جهته كتب محمود لها:»أفهم أنك غارقة ببحر
من الأفكار ولأنك لا تستطيعين التغلب على بحر هائج اقترح عليك من منطلق القلق الكبير
ألا تحسمي أمر مستقبل علاقتنا. لنعتمد على الأيام وعلى الرياح علها تأخذ سفينتنا كما
تشاء».
لم يسجل محمود تاريخ كل رسالة وفي فترة
لاحقة كتب لها رسالة قاسية ومرّة تطرق فيها للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني :»تماري، هذا الأسبوع
فكرت بك كثيرا. والأفكار بعثت مشاعر غير لطيفة. رأيت بك الصورة السيئة. اضطررت على
نسيان الوجوه الحلوة. هل هناك وجوه كهذه…يا ليتها كانت. يساورني شعور بأنني جريح جدا.
وأحيانا أشعر بالبؤس. اعترف أنه من غير المقبول أن تكتب رسائل حب بهذا النص ولكن ما
هو الحب؟ رغم كل شيء الحب لعبة تستبطن تناقضات خاصة، الحب في زماننا الذي يتميز بالكذب.
ربما ليس لطيفا قراءة هذه الكلمات القاسية الفظة التي تذّل طهارة حب تؤمنين به. أطلب
سماحك فلم أقصد إهانة أحد ولا التلميح لأي شيء. فقط فتحت قلبي وللتو سأغلقه. إلى اللقاء.
محمود».
وانقطعت العلاقات بين العاشقين لسنوات وفي
نهاية الثمانينات عادا والتقيا في باريس لقاء انفعاليا وخلاله هاتف الرئيس ياسر عرفات
محمود، لكن تمار لم تفهم فحوى المحادثة. وتقول في الفيلم إنها عادت لتقيم في فندقها
بعدما اتفقا على اللقاء في اليوم التالي لكن محمود لم يفتح الباب وحينما هاتفته من
تلفون عمومي أنبأها بعدم قدرته على لقائها وتتابع،»حينما حاولت أن أفهم السبب دخل لحالة
ضغط ودعاني لنسيان الرومانسية وقال لي أنت لست حبيبتي فبكيت كثيرا».
وتكشف تمار عن رسالتها لمحمود بعد اللقاء
الذي لم يتم في باريس وحتى هذه الرسالة لم تصله:»كان ذلك عند الخامسة مساء وطلبت أن
التقيك لساعة لمجرد رؤيتك. طلبت أن نلتقي للمرة الأخيرة .. لساعة بعد 25 سنة . إن طلبت
أكثر من ساعة فمنك السماح. كيف تجرأت على الاكتفاء للقائك مدة ساعة فقط فالسماء وقتها
كانت تمطر طيلة ساعة»(15.10.89).
في رسالة سابقة من 1963 تدلل تمار على تخبطاتها
القاسية حيال علاقتها بمحمود: «محمود الغالي سلام. أنا مرتبكة. ليس لدي ما أقوله. هذه المرة
الأولى التي أشعر بهكذا شعور. جميل ولطيف لكنه مخيف قليلا. كل مرة يتحرك بي الشعور
يتوجه لي فورا العقل ويقول لا. المحظور الذي بات معروفا لنا يطفو ويعلو مجددا ويوجع….
العقل والعاطفة قوتان متناقضتان دائما في داخلي ودائما أو غالبا العاطفة تنتصر. اعتقد
أن هذه هي نقطة ضعفي».
وتقول تمار في الفيلم إن اللقاءات في حيفا
وهي بعمر المراهقة والتي ترجم لها محمود قصائده في شارع عباس ظلت محفورة في وعيها عميقا.
وتضيف «كنت متعطشة جدا لسماع كلماته وتألمت معه ألم شعبه. كان محمود قلقا على القصيدة
لدى الشعراء الفلسطينيين والشعر كان جزءا من جوهر علاقتنا. أحببنا مايكوفسكي، ناظم
حكمت ولوركا طبعا. رسالتي التي كتبتها ولم أرسلها لمحمود كتبت على خلفية قصيدة لوركا
«حدث ذلك عند الخامسة قبيل المساء». اعتقد أن تلك القصيدة كانت تهزني ومحمود كان أستاذي
الكبير… أسرتني عظمته، حضوره الجسماني والروحي والفني. واليوم أعي كم من القوة منحني».
وردا على سؤال حول محمود الإنسان، تقول
إنه هاتفها في عام 2000 بعدما قرر وزير التعليم الإسرائيلي يوسي سريد إدخال ثلاث من
قصائد محمود في مناهج التعليم وبعدها كادت حكومة اسحق رابين أن تسقط. وتتابع «هاتفني
محمود وسأل متوددا :»قولي لي هل أنا مهم لهذا الحد حتى تسقط حكومة إسرائيل بسبب ثلاث
من قصائدي؟».
الإسرائيليون أضاعوا فرصة بعدم تعرفهم على
محمود وإصغائهم للآخر وأنا أؤمن بحب يقطع حدود الدين، العنصر والقومية. وماذا يعني
إذا كنت ساذجة بريئة؟ ماذا تبقى لنا؟ علينا العودة للجوهر والتفكير من القلب، العودة
للطفل داخلنا ومن هنا ننطلق. هذه هي الجذور الحقيقية. أرغب في القول للجميع: اعطوا
الحب فرصة أن ينتصر».
محمود درويش في فخ «تامار»
عبده وازن
الإثنين، ٩ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
نجحت المخرجة الفلسطينية ابتسام مراعنة
في إلقاء ضوء ساطع على شخصية «ريتا» التي كتب محمود درويش لها اكثر من قصيدة، ومثّلت
ما يشبه السر الذي لم يكشف الشاعر خلال حياته الا نزراً يسيراً منه. بدا الفيلم الذي
انجزته هذه المخرجة وعنوانه «سجل أنا عربي» بمثابة مفاجأة جميلة بما يحمل من صور ووثائق
ورسائل تثبت هوية «ريتا» الفتاة الإسرائيلية التي وقع شاعرنا في حبها اللاهب عندما
كان في مقتبل ربيعه ابن اثنين وعشرين عاماً. مكثت الصور والرسائل التي كتبها الشاعر
بالعبرية التي كان يجيدها، مجهولة طوال اعوام، مع ان محمود لم ينكر هذا الحب يوماً،
بل هو اخبر بضعة من اصدقائه عنه معلناً الاسم الحقيقي لـ «ريتا».
إذاً «ريتا» القصائد هي تمار بن عامي الإسرائيلية،
البولندية الأب والروسية الأم، فتاة من اليهود المهاجرين، ذات هوية مركّبة، تعرف اليها
الشاعر في حفلة كان يقيمها الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي انتمى اليه فترة ثم غادره.
وكانت تمار نجمة هذا اللقاء الشبابي الشيوعي وقدمت رقصة سحرت بها الشاعر الفلسطيني
الشاب مثلما سحرها هو. وعلى غرار ما يحدث في التراجيديا الإغريقية أحب الفلسطيني عدوته،
والإسرائيلية عدوها. غير أن العلاقة الشائكة انتهت بعد فترة وجيزة بلا انتقام ولا خيانة.
فهذه الفتاة ابنة السابعة عشرة ما لبثت أن التحقت بصفوف الجيش الإسرائيلي لتصبح «عدواً»
على الجبهة. وقيل إن الشاعر اصرّ عليها أن تتحاشى الخدمة العسكرية لكنها لم تلبّ رغبته.
حينذاك كتب لها يقول: «فتحت قلبي، وللتوّ سأغلقه. الى اللقاء». وكان على هذه العلاقة
ان تنتهي لتبقى منها ذكريات وقصائد يقطنها طيف تمار وقد أصبح اسمها «ريتا». عمّدها
الشاعر ونقلها من اليهودية الى المسيحية. فريتا هو اسم إحدى القديسات المعروفات في
الكنيسة الكاثوليكية، وتمار اسم يهودي رائج جداً وقد حملته في كتاب «التوراة» نسوة
كثيرات وأبرزهن تامار الزانية التي ضاجعت والد زوجيها، الأخوين الشريرين، عير وأونان،
وحملت منه.
يكشف الفيلم رسائل محمود العاشق الى تامار
التي تطل في لقطات كثيرة بعدما قاربت السبعين، وقد فقدت نضارة الصبا. والرسائل التي
كتبها بالعبرية تفيض عشقاً وغزلاً ورومنطيقية، مع أن علاقتهما لم تكن عذرية وفق ما
قال محمود: «في الغرفة كنا متحررين من الإسماء ومن الهويات القومية والفوارق، ولكن
تحت الشرفة كانت هناك حرب بين الشعبين» (مجلة «الكرمل»- العدد 52، 1997 ). لم يخجل
محمود من هذا الحب الذي تفصل بين طرفيه «بندقية» كما تفيد قصيدته الشعبية «ريتا والبندقية»
(«آخر الليل»1967) ولم يتردد في الكتابة اليها قائلاً علانية: «شكراً لك يا تمار، لأنك
جعلت لحياتي طعماً». لم يقل لها: «منحت حياتي معنى» كما يردد معظم العشاق الكبار، قال
«طعماً» وفق الترجمة العربية للرسائل، والطعم هو من اعمال الحواس، وكيف إذا كان العاشق
في أوج نضارته الجنسية.
لكنّ ما لفتني لدى مشاهدتي الفيلم الدعائي
الموجز الذي وزعته المخرجة عبر «اليوتيوب» وفيه لقطات مهمة من الفيلم الأصلي الطويل،
هو ان المخرجة ابتسام مراعنة تحمل شهرة إضافية هي «منوحين» كما ظهر في الفيلم، ما يعني
أنها متزوجة من رجل يهودي، وما قد يعني انها اسرائيلية ولو مجازاً. هذه الشهرة الإسرائيلية
لم تظهر إلا في الفيلم، فهي عربياً معروفة باسمها الفلسطيني وإسرائيلياً باسمها العربي
الإسرائيلي. هذا الأمر يعنيها وحدها. مثلما وحدها يعنيها ان يكون إنتاج فيلمها اسرائيلياً
على رغم النقد الذي وجهه اليها مناهضو «التطبيع» مع اسرائيل، وكذلك مشاركة هذا الفيلم
في «مهرجان الربيع الإسرائيلي للأفلام الوثائقية» وقد حاز جائزة الجمهور. والسؤال الذي
لا بد من طرحه هنا هو: من أتاح للفيلم فرصة الفوز بالجائزة، الجمهور الإسرائيلي أم
الجمهور العربي الذي تمكن من مشاهدة الفيلم حين عرضه في حيفا؟ وفي طريقة أخرى: هل جمهور
تامار هو الذي ساهم في نجاح الفيلم أم جمهور محمود درويش؟
ما كان شاعرنا ليرضى بعنوان الفيلم المأخوذ
من قصيدة بات يكرهها في الآونة الأخيرة وهي «سجل أنا عربي»، فهو أولاً، كان يعلم أن
هذه القصيدة هي من شعره النضالي والسياسي المباشر والسطحي، الهادف الى إثارة الحماسة
المجانية، هذا الشعر الذي كاد ينكره رافضاً قراءة قصائد منه في أمسياته، ثم كان على
يقين أن العروبة التي تغنى بها هنا، لم تبق على قيد الحياة بعد ما بلغت الحال العربية
أدنى انحطاطها. لم يكن محمود ليرضى على هذا العنوان، لاسيما انّ الفيلم موجّه الى الإسرائيليين.
وكانت المخرجة ذكية في التوجه اليهم عبر هذا الفيلم الذي أظهرت الشاعر فيه يتحدث بالعبرية
الطليقة، وعن امور تظهره شاعراً شبه مسالم وشاعراً فرداً «بالكاد يمثل نفسه» كما ورد
في الفيلم، وليس صوت جماعة وتاريخ، يمدح الجزار بصفته هو الفلسطيني، ضحية قادرة على
حب الجزار ولو في صورة فتاة التحقت بالجيش الإسرائيلي.
قد يكون فيلم ابتسام مراعنة منوحين عن محمود
درويش جميلاً وفريداً وفق ما شاهدناه في الفيلم الدعائي المختصر، لكنه حتماً ليس فيلماً
بريئاً. دلالات كثيرة وإشارات تؤكد عدم براءة هذا الفيلم. ولكن ينبغي الانتظار ريثما
نشاهده كاملاً.
رويداً، رويداً، على محمود درويش
يوسف أبولوز
تاريخ النشر: 11/06/2014
يا لها من "حفريات" جديدة ستجرى
في القريب العاجل وتطال قبر محمود درويش بالقرب من رام الله . . مهلاً عزيزي القارئ
هذه "حفريات" لن تجرى بالبلدوزر، بل، بالأقلام للانقضاض على روح الشاعر الذي
قال قبل موته "يحبونني ميتاً"، وهو لم تكد روحه تهدأ قليلاً بعد أن خبت نار
الحقد التي أضرمت في جسده وذاكرته بعد صدور مجموعته "لا أريد لهذه القصيدة أن
تنتهي" حتى قامت المخرجة الفلسطينية ابتسام مراعنة بعرض فيلمها الوثائقي
"سجل أنا عربي" في مهرجان لمثل هذا النوع من الأفلام في تل أبيب .
طبعاً النار ستشتعل من جديد بعدما يتم تداول
الفيلم على نحو أوسع من المهرجان، ويا له من فيلم . إنه فيلم رسائل علاقة حب عابرة
وقديمة بين محمود درويش عندما كان في الثانية والعشرين من عمره وعضواً في حزب شيوعي
"إسرائيلي"، وبين فتاة يهودية كانت في السابعة عشرة من عمرها وتنحدر من عائلة
بولندية اسمها "تمار بن عامي" التحقت، عندما أصبحت في العشرين أو الثلاثين
من عمرها بسلاح البحرية "الإسرائيلي" .
محمود درويش سرعان ما قفز من العلاقة مبكراً
خصوصاً بعد حرب الخامس من حزيران . لقد أصبحت "ريتا" وهو الاسم الذي أطلقه
درويش على "تمار بن عامي" مجنّدة عسكرية"، وهو أصبح مهاجراً أو منفياً
من بلاده، وقد نما ذلك الحب الصغير العابر بين شاب وفتاة بعيدين عن العنصرية الصهيونية
المقيتة، ولكن حتى هذا لا يكفي . لقد حزم الشاعر أمره وكتب قصائد إلى "ريتا"
يدعوها لأن تترك ما هي عليه من تجنيد "إسرائيلي" وتعود إلى ذاتها الإنسانية
الصافية .
علاقة درويش ب"ريتا" ليست سرّاً،
بل هي أشبه بقصة طفولية عابرة كما أشرت، ولكن فيلم المخرجة ابتسام مراعنة يبدو أنه
" . . ليس فيلماً بريئاً . دلالات كثيرة وإشارات تؤكد عدم براءة هذا الفيلم"
كما يقول عبده وازن .
ما الذي يفعله النقّاد والشعراء والسينمائيون
بمحمود درويش من الجانب الفلسطيني، وما الذي يفعله "الإسرائيليون" بصاحب
"لماذا تركت الحصان وحيداً . .؟" .
باختصار إنه الحصان الوحيد في معركته القادمة،
كما هو دائماً في وحدته التي لا تتكرّر .
منذ الآن . . رويداً، رويداً على محمود
درويش .
تعليقات