محمود الريماوي يلقي نظرة على عالم تيسير نظمي القصصي
Tweet
Tweet
محمود الريماوي
في وقت كان فيه الأدب الفلسطيني في سبعينات القرن الماضي،
يجنح نحو مواكبة ظاهرة الكفاح الفدائي، فقد اختار الكاتب الصاعد آنذاك تيسير نظمي أن يشق له طريقًا خاصة ويلتقط
موضوعات جديدة، وهي بالذات معاناة فقر شريحة من الوافدين في بلد خليجي هو الكويت
حيث كان يقيم، مع بقاء ظاهرة الكفاح الوطني خلفية غائرة لأعماله القصصية. هذا
الانشغال بالشرائح الكادحة في بلد الاغتراب قلما حفل به أدباء فلسطينيون وعرب
آنذاك بمن فيهم أدباء الكويت باستثناء القاص وليد الرجيب أيامها، وقد كشف
هذا الانشغال عن سعي تيسير نظمي المبكر وهو العشريني حينها، الى أن يجترح إبداعه
القصصي الخاص على صعيد الموضوعات والأداء، بغير أن ينسج على منوال غيره، رغم أنه
يسهل الوقوع على تأثيرات لإميل حبيبي
وغسان كنفاني، في مجموعتيه الأولى والثانية : الدهس والبحث عن مساحة. لكن هذه
الأصداء لم تطمس اللون الفريد للكاتب الشاب،
الذي تميز اداؤه القصصي بـين ما تميز به بـ:
روح شعرية وحتى بأداء شعري يتغلغل في قصصه ويشع في
جنباتها، وهو منحى جاء على الغالب رداً
على جفاف القصة التقليدية ولغتها
التقريرية، كما جاء متساوقا مع هذا المنحى في التجديد الذي اطلقه قاصون رواد أمثال
زكريا تامر ومحمد خضير وغادة السمان وسواهما. ولئن كانت هذه الحمولة الشعرية عالية
، أو كثيفة تُثقل البنية الدرامية في بعض الأحيان، إلا أن تيسير نظمي دأب على
اختراقها غير مستسلم لغواية الشعر، وذلك باستخدام اللغة اليومية المحكية المضادة
لبلاغة الشعر، وباللجوء الى سخرية لا حد لها تدفع القارىء للكف عن التحليق عالياً، وتدعوه لأن يرى ويُحدّق بما يحدث على الأرض
أمامه وحوله من فجائع وغرائب. والسخرية كما هومعلوم نثرية حكائية مضادة للشعر
الحديث، وإن كان الشعر القديم حافلاً بألوان منها.
تسم
السخرية إذن العديد من قصص تيسير نظمي،
فقلما تأتي الفجيعة غير مرتبطة بالتهكم،
وبالنزوع الى كسر السواد المخيم وذلك بتندر الشخوص على ذواتهم وعلى الآخرين، كما في
قصة "صالح صلاح يتسلم رسالة من والده" من مجموعة "الدهس" .
واذا كان الكاتب قد نأى بنفسه عن المبالغة في تظهير سمة البطل الايجابي الوطني، فعلى النسق نفسه فإنه يدعو قارئه من باب خفي الى عدم الاستسلام الى آلام المعاناة، فحتى هذه المعاناة الحقيقية والأليمة هي أيضا مصدر للتندر لديه. وفي القناعة الآن أن كل
أدب عظيم هو الذي يوقظ الرغبة في الحياة
ويحفز على الاقبال عليها، ويسخر من
تكالب المحن على الضحايا ، حتى حين يتناول مواضيع ووقائع مأساوية.
الى جانب هذا أود الاشارة الى أمر آخر مما يميز العالم
القصصي لتيسير نظمي. فالنص القصصي لديه مفتوح على أجناس كتابية شتى من السرد
والشعر والتناص والسيولة التعبيرية التي تتفلت من كل تأطير، والأهم من ذلك في كثير
من الحالات فإن القصص تكمل بعضها، ما ان
تنتهي قصة حتى تُستأنف من جديد كما في قصتي
"النمور في اليوم ال 23 تشرب ماء العدس" التي تليها قصة "آخر
النمور". ثم "شعرها طويل حتى
الفجر" تليها قصة "شعرها طويل حتى بابل". من مجموعة "وليمة
وحرير وعش عصافير"، فالقصص لديه لا تنتهي، ويمكن حتى ان تُكتب من جديد كما
يحدث في الحياة حين تتجدد فجأة تجارب
حياتية قديمة، فتصبح هذه التجارب قديمة
وجديدة معاً. والابداع عند نظمي يواكب قانون الحياة هذا ، ومن دون أن يخشى وقوعه
في التكرار، فكأني بتيسير نظمي يهجس بأنه ما
دامت الحياة متكررة ومتجددة في آن واحد ، فلم لا تكون القصص احياناً وهي ابنة
الحياة على هذه الشاكلة أيضا : قديمة متجددة حاملة المزيد من الإضافات؟.
أمر متصل بفنية اسلوبه،
وهو ولوع تيسير بالكتابة بأسلوب المقامات في العديد من قصصه. بهذا يلتفت
الى الجذور ويستلهم روح التراث والفن القصصي العربي الأولي، رغم أنه قاص حداثي،
لكن الحداثة كما يبدو لا تعني الكتابة من درجة الصفر على قول ناقد فرنسي. ولئن بدا في الأمر باستخدام اسلوب المقامة بعض
رتابة في تكرار التوقيعات السجعية، فثمة رسالة ثاوية وغائرة في هذا النسق
التعبيري.. رسالة مفادها ان الرتابة تضرب
حياة ابطال القصص وتلوّن نبرة الراوي جنبا الى جنب مع الطرافة، فمن الطبيعي
والحالة هي هذه أن يسري الأمر ويشيع في جنبات بعض القصص، كي يقف القارىء على هذه
الرتابة يتذوقها ويعيشها. قليل من الرتابة التعبيرية المتعمدة، لتظهير الرتابة
النفسية التي تكتنف حياة الأبطال كما تكتنف الحياة البشرية برمتها.
اشير بعئذ الى
مرجعيات ثقافية وابداعية تحضر في ثنايا قصص تيسير نظمي من درويش وسميح القاسم واحمد
دحبور الى زكريا تامر الى ناظم حكمت وماركيز وسواهم ، وأساطير مثل بروميثيوس وسيزيف وغيرهما. وهي سمة ظاهرة
تستند الى التناص والكتابة على كتابة من جهة، وعلى دمج الشعر بالقصة من جهة ثانية،
وعلى السعي من جهة ثالثة الى بلورة رؤية ثقافية تجمع بين ما هو واقعي وسريالي في
سياق نظرة يسارية إن صح التعبير، تنتصر للمغلوبين وتعظم فيهم ارادة الكفاح والحياة،
من دون الوقوع بطبيعة الحال في كتابة أيديولوجية منمطة، فقصص تيسير تتأبى على
النمطية والتنميط، ويصنعها صاحبها في هواء
إبداعي حر وطلق، لا يرتهن فيه لأيديولوجيا بل يعانق الحياة في بكارتها وفوضاها،
والطبيعة في غناها ووحدة كائناتها. وقارىء تيسير نظمي سوف يصادف في قصصه جنبا الى جنب مع البشر كائنات
مثل ذئاب وخراف وعصافير وحمارا صابرا كتوما وفراشات، وحتى الدود
والذباب يفسح لها موضعا في قصصه، فقصته التي تحمل مجموعتها اسمها "وليمة وحرير وعش عصافير" تدور
حول الدود تحت الأرض وفوقها وعن البشر على
الأرض وتحتها، تليها قصة أخرى مدمجة بها مكملة لها بعنوان "دودة القز". وفي
المجموعة اياها قصة بعنوان "بيت الذبابة" عن رجل صادف ذبابة في غرفته.. يعطف عليها ويأنس بها ويدعها تتنقل كيفما شاءت على مر الأيام، ثم اذا
بها تنمو وتغدو بحجم عصفور، والراوي لا يستغرب الأمر مع تدخلات العلم في
الجينات والهندسة الوراثية للكائنات،
ثم يختتم قصته بهذه العبارات: "غير
أن كل معتقداتي وعقلانيتي وواقعيتي اهتزت
اليوم عندما عدت الى المنزل لأجدها ذبابة بحجم الذئب،
وبأنيابه وبتكشيرة لبؤة تجلس في
مكاني وتقول: من سمح لك بالدخول؟".
القصة التي تليها "بيت الفراشة" لا تبتعد كثيرا عن هذه الأجواء ولكن مع إضافة مهمة فالفراشة المُرحب بها في
البيت، تتنقل حرة من موضع الى موضع من دون
ان تلبث طويلا في هذا المكان او ذاك ، الى ان تستقر على سرير البطل الراوي، وبالذات على وسادته "الفراشة التي دخلت المأجور ما كان بإمكانها أن ترى الألوان على أجنحتها ،فقد رأت كل شيء ثم سكنت عن الحركة على
وسادة كانت لا تزال رطبة غارقة بالدموع ".
منحك الله مزيدا من دموع الفرح أخي تيسير نظمي، كما تغرورق دموع الغبطة في نفوس قارئيك...
بناء على رغبة القاص تيسير نظمي بعدم نشر قصته ( أشجار
هيرمان هيسه) التي ألقاها في الأمسية المشار إليها أعلاه حيث يريد أن ينتفع من
مقابل نشرها فقد اكتفينا بهذا الرابط للأقاصيص الثلاث التي قرأها و أشار بنفسه إلى
كونها آخر ما تم نشره له في يومية الدستور كقاص بعد أن غادر يومية العرب اليوم
كشاعر .. وكانت الصحف الأردنية اليومية قد أوقفت دفع المكافآت للكتاب الذين ينشرون
فيها بالقطعة و ما يزال تيسير نظمي ينتظر مكافأة النشر لهذه الأقاصيص التي يتقاضى
عليها نحو مئتين دينارا لو نشرت في مجلة الكويت ! و إليكم الرابط : إضغط هنا
تعليقات