قصة قصيرة لجمال ناجي بعنوان ( الديك الآخر) - 1986- ارتفعت بالراهن لمستوى الرمز




الديك الآخر

قصة

•     جمال ناجي


لا بد من وسيلة تمكنني من مقارعته، او التعايش مع وجوده المكثف .
انه ديك قوي ذكي ،ولماح ايضا.
لست انا من يقرر هذه الحقيقة، هو الذي يفرضها بطريقته الصامتة.
حين يمشي ، تتحرك عضلات فخذيه وظهره بوضوح ، على الرغم من غابة الريش اللامع المحيط ببدنه.
من ينظر اليه لحظة وقوفه الشامخ، لا بد أن يتحرك بدنه بطريقة ما، على الأغلب ، فان من يشاهده في وقفته تلك، سيتذكر ان في الحياة ما هو اهم من مجرد اللغو واللهو والعبث: في الحياة هذا الاعتداد العارم بالنفس ، وهذا التماسك الجميل.
لسبب لا اعرفه، أطلقت عليه اسم " أبو العبد"، غير ان هذه التسمية ايقظت في نفسي صخبا عارما، ورجعا مبهما:
اصغيت الى ذاكرتي، لم اسمع سوى الصخب، والهدير الماحق السحيق .
أبو العبد، ليس مجرد واحد من الطيور الداجنة السخيفة، ففي عينيه المستديرتين بريق وبأس ومراوغة قلما رأيتها حتى في عيون الرجال.
حين يقترب من داري ، حيث دجاجاتي الأربع، تظل عيناه ترقبانني ، كأنما تنطقان:
إني أراك!
هو لم لم يهبط من كوكب آخر، انه ديك أرضي ، غير ان هذا لا يقلل من غرابة نظراته الصقرية الحادة:
الا يمكن ان تكون امه انجبته اثر استسلامها لرغبة صقر جامح محروم؟.
أبو العبد اعتاد غزو دجاجاتي في عقر داري ، وانا لم استطع التفلت من احساسي بان في هذا الغزو انتهاكا لما يخصني امام عيني!
هكذا يقتحم الدار:
يقترب من بوابتها، يلتفت الي، يتلكأ قليلا، كأنما يريد طمأنتي الى ان وجوده لا يحمل اية نوايا خبيثة تجاه دجاجاتي! واذ تحين اللحظة الحاسمة، يعاود النظر الي، ثم يعبر العتبة ببطء وعادية، كمن ينفذ تقاليد يومية لا تحتمل التأويل او الشك.
احيانا، اتفهم رغبة الذكر او الأنثى، لكنني لا احتمل اقتران الرغبة بالتنافس، هذا الأمر يغيظني، يدعوني الى احتقار دجاجاتي اللآئي يتقربن منه ويتهافتن عليه حال اقتحامه عتبة الدار.
اجل! لقد احتقرتهن .
فهن لا يكتفين بالالتفاف حوله كجاريات الرشيد، انما يتقاتلن ويتناقرن أمامه بطريقة مشينة، وحين يختار احداهن، يجتذبها بطريقة رخيصة:
ينقر الحبوب عن الأرض، يضعها أمامها برقة وحنان مفتعلين، فتلتقطها بتواطؤ مكشوف، ثم تنقاد وراءه!
حينها يحدق الي بعينين تطالبانني بالتفهم، ويؤدي حركة توحي بالبراءة: يصغر عينيه، او يصدر من منقاره صوتا رقيقا مطمئنا، ثم يمضي.
الامر يحتاج الى حل، اذ لا يجوز ان يستحوذ ديك على تفكيري الى هذا الحد المعيب.
من الممكن ان نعقد اتفاقا بيننا، كأن أرمي له بعض العلف للتدليل على حسن نواياي .
لكن هذا سيعني انني قدمت له تنازلا.
لا يهمني كيف سيفسر الامر من جانبه، فالمهم انني انا الذي سأتنازل: انا الذي سأضعف.
من الممكن انه أدرك حقيقة احساسي تجاهه، فهو لا يقترب مني اكثر من المسافة التي تتيح له فرصة الهرب، اذا ما حاولت مباغتته او القبض عليه!
على اي حال، اشعر بأننا فهمنا بعضنا جيدا، كأننا رجلان!
لكننا لسنا ندان، ففي اسوأ الأحوال، استطيع مطاردته، واقصاءه دون ان يؤذيني.
لكن لماذا لا أكون أكثر تفهما، فأسمح له ولدجاجاتي بحرية الحركة والسلوك؟
ما الذي يضيرني؟.
احيانا تشتعل النيران في صدري ، اكاد أنقض عليه وامزقه،فأنا ارفض ان يكون بيتي مكانا لالتقاء ذكر غريب بأنثى تخصني، حتى لو كان الغريب ديكا وتلك دجاجة! ما الفرق؟ ولماذا لا يكون القبول بهذا الأمر، مقدمة للقبول بما هو أكبر؟.
ضقت به، طاردته بالحجارة، أقصيته عن بيتي، لكن دجاجاتي صرن يذهبن اليه خلسة، بل بدأن يضعن بيضهن حيث يقيم بدلا عن داري!؟
كأنما الأمور تسير على عكس ما أريد!
كدت انفجر:
ما فائدة تربيتهن اذا لم يضعن بيضهن عندي؟ وهل يجوز ان اشتري البيض من دكاكين القرية، ولدي اربع دجاجات؟
تمشيت امام البوابة الخارجية بنفاذ صبر، انتظرتهن، وحين لم يعدن، توجهت نحو دار ابي العبد: طرقت البوابة، فأطل منها رجل عجوز اسمر البشرة ابيض الشعر.
سألته عن دجاجاتي بصوت مخذول، وقبل ان يجيبني، رأيتهن يتراكضن هاربات من تلك الدار متجهات الى داري!
لا بد انهن عرفن صوتي، والا، ما الذي دعاهن الى هذه العودة المفاجئة المذعورة؟
لحقت بهن، ولشدة حنقي، خلعت فردة حذائي، قذفتها نحوهن بقوة غيظي، فأصابت احداهن:
ارتمت على الأرض وهي تتنفس بذعر من منقارها المفتوح، سبّلت عينيها، فتلاحقت بها ، وذبحتها على الفور.
ابو العبد افتقد تلك الدجاجة:
من المؤكد انه علم بجريمتي، فقد وقف عند البوابة، حدجني بنظرة اتهام، صاح ثم صفق بجناحيه العضليين المزركشين، وتقدم بثقة نحو الدجاجات.
ما معنى ان يكون واثقا من نفسه الى هذا الحد؟ الا يمكن ان يكون قادرا على ايذائي لو تعرضت له؟
لا بد من حل!
عرضت على الرجل العجوز ان يبيعني ديكه المغرور.
قلت في نفسي: سأروضه وأدجّنه، وليفعل ما يشاء مع الدجاجات، بعد ان يصبح ملكي.
لكن ما الذي سيتغير؟ لماذا يصير كل شيء مباحا له اذا اشتريته، في حين أحرم عليه كل شيء حينما يكون ملكا لغيري؟
الرجل العجوز رفض فكرة البيع .
 قلت :
سأبحث عن ديك آخر في السوق.
حذّرني:
لن تستفيد.
سألته بعناد:
لماذا؟
اجاب بلهجة العارف:
انت لا تعرف الدّيكة، فحينما ينهزم الديك الذي ستشتريه امام ديكي، سيتحول الى دجاجة، ويهرب كلما رآه.
تظاهرت الفطنة:
وماذا لو تغلب ديكي انا؟
هز رأسه ببطء:
غير ممكن، انا اعرف ديكي الفحل.
ثم خرق الصمت الذي ساد بيننا للحظة وقال:
لماذا تريد شراء ديك؟ الا يقوم ديكي بالمهمة؟
حلو! هذه اهانة جديدة! فالعجوز يرى انه يسدي اليّ معروفا كلما انقض ديكه على دجاجاتي!
هذا ما ينقصني!
بعد بحث طويل في سوق القرية، عثرت على ديك صلب ممتلىء، ذي عنق مزركشة طويلة، ورأس متوّج بعرف دامي اللون.
حملته بين كفي، وعدت به مسرعا الى داري ، أطلقته في الفناء، فبدأ ينقر الحبوب، ويتفحص معالم الدار وزواياها.
 بحثت عن الدجاجات، لم أجدهن: لقد اعتدن القفز عن السور المحيط بالفناء والخروج اثناء غيابي !
دجاجاتي وأنا أعرفهن.
نفض ريشه وصاح، ثم كرر صيحته مرة أخرى، وأخرى... في كل مرة كانت رنة الاستغراب تتراجع في صوته، أما دجاجاتي فتركن ابا العبد، وعدن راكضات الى الدار، ثم التففن حول ديكي الجديد!
لقد احترمت لهن هذا الموقف الوفي، بل أعدت النظر في احتقاري لهن، وحمّلت نفسي مسؤولية تهافتهن ، اذ لو كان في الدار ديك منذ البداية، لما اضطررن الى الانجرار وراء ابي العبد.
صفق الديك ريشه من جديد، صاح مختالا بين الدجاجات، فسمعت صيحة بعيدة:
هي صيحة ابي العبد، لا شك.
احسست بأن كلا من الديكين يتوعد الآخر، ذلك انهما تبادلا صيحات حادة محمومة، وصياح ابي العبد صار يعلو، ودقات قلبي لا تني تتلاحق، كأنما سأخوض معركة قاسية.
اقترب الديكان من بعضهما بحذر ، وكلما ضاقت المسافة بينهما، تسارعت دقات قلبي، ونظرت الى ديكي متوسلا متوسما الظفر في هذه الواقعة العظيمة.
حين التحما، صفع ابو العبد خصمه بجناحه القوي، فطارت من بدنه ريشة، لكنه مد منقاره بسرعة خاطفة، عض عنقه ، ولم يتركه الا بعد ان نتف ثلاث ريشات منها!
صحت مشجعا:
عافاك ايها البطل، مزقه.
ظلا يتعاركان ببسالة ومجد، تدافعا حتى وصلا قدمي، سال الدم من عنقيهما وعرفيهما، تطاير الريش حولهما، وحين بدأ ديكي يتراجع، ارتجفت خوفا، خشيت ان ينكسر، فوجدتني اتدخل في العراك:
اقتربت من ابي العبد فلم يهرب! قبضت عليه بكلتا يدي، لم يتزحزح! احسست بحرارة بدنه وارتجاف اعماقه، لمحت في احدى عينيه نظرة مريرة تكاد تتهمني بالغدر، واذ اقبل ديكي ينتف عنقه بشراسة ونذالة، أطلق صيحة مذبوحة بين يدي، فأطلقته، فاستدار مبتعدا بطريقة تنطبق عليها كلمة الانسحاب لا الهرب.
لم اشعر بالانتصار المزعوم الذي ادعاه ديكي، بصياحه المزهو وسط الدجاجات.
لا يبدو عليه الانتصار، وقد يدفع ثمن ادعائه وزهوه غاليا عندما تحين لحظة التقائهما من جديد.
دهمتني الكآبة، شبكت يدي خلف ظهري، تمشيت، فشاهدت ابا العبد يقف مذهولا قرب داره.
اقتربت منه، تأملته عن بعد خطوات، فاستوقفني احساس تغلغل في أعماقي:
ان نظراته تتهمني، وان وقفته لا توحي بالهزيمة، بل بمزيج من الذهول والتحدي والاستنكار، رغم جراحه النازفة.
صبيحة اليوم التالي، افقت من نومي على صياح ديكي، نظرت اليه مشفقا، قلت:
ستقاتل اليوم قتال الشجعان، فأنا لن أتدخل.
فتحت البوابة، خرج تتبعه الدجاجات، صاح، مشى قليلا، ظهر ابو العبد، تقدم نحوه ببطء حذر، اقتربا من بعضهما، وثارت زوبعة الريش والدم والغبار.
لم تطل المعركة، فقد كف ديكي عن الهجوم مكتفيا بالدفاع عن نفسه، تراجع قليلا، ثم ما لبث ان كف عن الدفاع واستدار، لكن غريمه ظل يصفعه وينتفه، وتحول التراجع الى هرب فظيع:
ظل ابو العبد يركض وراءه الى ان دس رأسه في ثقب بين كومه من الحجارة، واشرع ذيله ومؤخرته للريح ولمنقار خصمه..
حين عفا ابو العبد عن ذلك الديك برجولة ، تلملمت الدجاجات حوله من جديد، اقتادها الى داره امام عيني، فارتخت مفاصلي، تهدم بدني، ولم أر سوى الظلام الحالك الذي ملأ الثقب بين كومة الحجارة، وتساءلت بمرارة عما اذا كان الأمر يتطلب حلا ام لا؟.
1986
jamalnaji@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نص قصيدة عماد الدين نسيمي كاملا حسب أغنية سامي يوسف

من اهم الكتب الممنوعه في الاردن: جذور الوصاية الأردنية وجميع كتب وترجمات تيسير نظمي

بيان ملتقى الهيئات الثقافية الأردنية وشخصيات وطنية حول الأونروا